الذئب والكلاب: التعاوُن وحده لا يكفي لاكتساب صداقة البشر | تقرير

الذئب والكلاب: التعاوُن وحده لا يكفي لاكتساب صداقة البشر



برغم التشابه الشديد في الملامح الخارجية بين الذئاب والكثير من فصائل الكلاب (كالراعي الألماني مثلًا والهَسكي والملموت الألاسكي وحتى كلاب الشيبا إينو اليابانية اللطيفة)، إلا أن صورة البشر الذهنية عن الكلاب "كأفضل وأقدم أصدقاء الإنسان" تختلف تمامًا عن الصورة الذهنية للذئب، الذي يُلقِي مرآهُ -بل عواؤه وحده- الخوف في قلوب أغلب البشر، ويستحضِر فيها معاني العَدَاوة، من الشراسة والقسوة والخطر.

ولا يَخفى على الكثيرين اليوم أن هذه الصداقة القديمة مع الكلاب -التي يُقدِّر بعض الباحثين عُمرها بخمسة عشر ألف عام- بدأت في الواقع بتقاربٍ غير معتاد بين إنسانٍ وذئب، ثم تطوَّر التقارُب إلى استئناس ثم إلى تربية شاملة ثم صار الذئبُ اليوم -عدو الماضي المهيب- هذا الكلب المدلل الذي يجلس على حِجر صاحبه ليشاهد معه التلفاز.

واللافت للنظر أن هذه الفوارق التي تبدو اليوم شاسعة بين الذئاب والكلاب، لا تكاد تظهر في السجل الوراثي للنوعين. فبينما تختلف جينات الذئاب عن أقرب أقربائها في البرية -القيوط- بنسبة 4% تقريبًا، لا تُخبر جينات الكلاب إلا باختلاف بنسبة 0.2% عن جينات الذئاب!
 
 

أثر الفراشة.. أثر الخضوع..

وقد جاءت نتائج دراسة حديثة أجرتها جامعة الطب البيطري بفيينا Vetmeduni ونشرَتها دورية ساينتيفِك ريبورتس، لتعيد التأكيد على هذا التقارب الكبير بين الذئاب والكلاب، وتُعلن أن الذئاب يمكن أن تتعاون مع البشر أيضًا كالكلاب، وقد زادنا فريق البحث من الشعر بيتًا، وقال إن ما يجعل الكلب يتعاون مع البشر من الأساس ليس سوى "الذئب الذي في داخله"! وقد قامت الدراسة باختبار مدى التعاون الذي ستعمل به الكلاب والذئاب مع البشر لإنجاز مهمات معينة، ليستنتج الاختبار أن كليهما تماثلا في إظهار تعاون بالغ، لكن الاختلاف بينهما كان في الأسلوب.

فخلال الدراسة بدا أن الكلاب كانت تَتبَع سلوك وأوامر الباحثين، أما الذئاب فكانت تقود التفاعل بينها وبين البشر بشكل كبير! يقول الدكتور (فريدريك رانج) مُدير الدراسة والباحث بمعهد (كونراد لورينز) التابع لجامعة الطب البيطري بفيينا: "أخبرَتنا مراقبة تفاعلات التعاون بأن الذئاب كانت تميل إلى أخذ زمام المبادرة، بينما فضَّلَت الكلاب انتظار ومتابعة ما سيقوم به رفاقها من البشر."

وقد جاءت نتائج الدراسة -التي أجريت على 15 ذئبًا رماديًا و12 كلبًا من فصائل مختلفة- مُخالِفةً للفرضية القائلة بأن الكلاب قد اكتسبَت هذا الاستعداد للسلوك التعاوني بعد استئناس البشر لها، ونتيجةً لما جاء مع هذا الاستئناس مِن تهذيبٍ لشراسة الطباع، وميلٍ كبيرٍ إلى الخضوع. لكن الذئاب معروفة كذلك بتعاونها المُذهل مع بني قومها في تربية الصغار والصيد والدفاع المشترك عن مناطق النفوذ، وقد أظهرَت الدراسة أن هذا الاستعداد التعاوني يمكن أن يمتد ليشمل البشر -إذا ما سمحت الظروف بالتعارف والتآلف منذ الصغر- وبكفاءةٍ لا تقل إطلاقًا عن كفاءة تعاون البشر مع الكلاب، فقط بأسلوب مختلف.

لكن هذا الاختلاف البسيط في الأسلوب أدَّى -فيما يبدو، وعلى طريقة أثر الفراشة- إلى تفضيلٍ كاسحٍ للكلاب على الذئاب، في أعين البشر الذين بحثوا منذ عهودهم الأولى عن علاقات "تعاون" مع جيرانهم على الأرض يكونون فيها وحدهم الطرف المسيطر. وهكذا اختار أجدُادنا أجدادَ الكلاب ليجلسوا في دفء النار تحت أقدامهم، وليُلقوا لهم بفُتات طعامهم، أو ما عافته أنفسهم، وتطيب له أنفُس الكلاب، فتأكل وتتناسل وتملأ أرجاء الدنيا بهذه الأعداد الهائلة والفصائل المتنوعة التي نعرفها اليوم، بينما يبقي الذئب لهذه الحقب كلها نائيًا في البرية، مطرودًا من رحمة البشر، لا يحتمي إلا بفكيه وقوائمه وفرائه وبني جلدته، ويظل عواؤه يدوي في الليالي المقمرة، فيمزِّق الليل، وقلوب السامعين.


نُشر هذا التقرير في الأصل على صفحة العلوم بموقع الجزيرة نت.

تعليقات

اختيارات قراء هذا الأسبوع