الأمير الصغير: أدب تناول الأدب | مقال

الأمير الصغير: أدب تناوُل الأدب

 

 

سأفترض أنك لم تقرأ "الأمير الصغير" وسأخبرك أنها حكاية قصيرة يرويها طيار سقطت به طائرته في قلب الصحراء، ليقابل هناك طفلًا ذهبي الشعر يخبره بأنه جاء من كويكب بعيد في الفضاء، ثم يحكي "الأمير الصغير" للطيار حكايات صعبة التصديق قليلًا عن رحلته بين الكواكب والعوالم حتى لحظة لقائهما، وعن الوردة التي أحبها وتركها وحيدةً على كوكبه، وتنمو صداقة سريعة بين الأمير والطيار، قبل أن تأتي لحظة فراقهما، ليعود كل منهما إلى حيث ينتمي.

 

حسنًا. إن كانت الأسطر السابقة كافية لتكوين فكرة عن الكتاب، لما استحق الكتاب مكانته الفريدة بين عجائب الإبداع البشري. لكنني فقط أردت أن أخبرك - وأنا أعلم أن هذا صعب التصديق قليلًا - أن هذه السطور تلخص حكاية حقيقية تمامًا في حياة الكاتب/الطيار الفرنسي "أنطوان دى سانت اكزوبيري" صاحب "الأمير الصغير" الذي سقطت به طائرته بالفعل في قلب الصحراء (في مكان ما قرب وادي النطرون في مصر)، ليهيم على وجهه لثلاثة أيام دون طعام أو شراب يذكَر، يفعل فيها الحر والعطش أفاعيلهما في جسده وعقله، قبل أن يلتقطه أحد البدو في اليوم الرابع، لينجو بأعجوبة من الهلاك في الصحراء، كما نجا بأعجوبة من الهلاك في سقوط الطائرة.

 

فأية تجارب تلك التي خاضها الرجل؟ وأي رجل ذلك الذي كان يقرأ ويكتب أثناء قيادة الطائرة (ويدور بطائرته - فيما يُروى - لساعة أو أكثر حول المطار قبل الهبوط ليتم قراءة كتاب!)؟ وأية حياة عاشها بين ويلات الحرب الحمراء على الأرض والسلام الأزرق الأبدي في السماء؟ وأي كتاب ذلك الذي تركه للعالم ليجمع في صفحات قليلة أفكارًا تنوء بحملها والتعبير عنها مجلدات الفلسفة السميكة؟

 

كواحدٍ من الملايين الذين شغفهم هذا الكتاب حبًا، وأثر في عالم أفكارهم بالكامل، استقبلتُ خبر تحويل "الأمير الصغير" إلى فيلم متحرك طويل، بالقليل جدًا من الاستبشار، وبالكثير جدًا من الشك والخوف - بل والغيرة على ذلك الكتاب النفيس من براثن أستوديوهات الإنتاج الضخمة التي تغازل في المقام الأول دولارات الجماهير، لا أرواحها - خاصةً أن التجارب السابقة للمساس بالأمير الصغير وتحويله إلى أعمال مرئية كانت مخيبة تمامًا للآمال. وقد ظهرت الصور الدعائية الأولى بأساليب رسم وتحريك ضاعفت مخاوفي. فرسم وتحريك الصور بالكمبيوتر وبتصميمات كالتي ظهرت، يناسب تمامًا أفلام المغامرات خفيفة المحتوى سريعة الإيقاع من النوع الذي يُطلق عليه "أفلام العائلة"، وهو النقيض التام لما يجب أن يكون عليه فيلم يستلهم ذلك الكتاب الفريد. وهكذا وجدت نفسي غاضبًا من الفيلم قبل أن أراه، ومقرِّرًا ألا أشاهده إلا في "مناسبة عائلية" تناسبها "نسخة عائلية" من الأمير الصغير.

 

وحين جاءت المناسبة، بدأت مشاهدة الفيلم الذي جاءت مقدمته محاكاة لمقدمة الكتاب، مستخدمةً كلمات ورسومات المؤلف الأصلية وبأسلوب تحريك يدوي لطيف على خلفية موسيقية رقيقة لهانز زيمر. المقدمة التي يرويها الطيار العجوز عن طفولته، ويحكي عن رسْم رسمه وهو صغير لأفعى تلتهم فيلًا، ثم عرضه على الكبار فلم يفهمه منهم أحد، حتى بعد محاولاته المتكررة لشرح الرسم، والتي انتهت أخيرًا باليأس من أن يفهم "الكبار" ما رسمه الطفل، ويكبر الطفل ليقرر أن عليه أن يحتفظ برسومه لنفسه، وأن يتعلم التأقلم مع الأمور التي يحسن الكبار فهمها ويحبون الحديث عنها.

 

هكذا يبدأ الفيلم بالمقدمة التي يحفظها كل من قرأ الكتاب، لكنه يتبعها بتقديم قصة تبدو لأول وهلة منفصلةً تمامًا عن القصة الأصلية. قصة بطلتها طفلة صغيرة تذهب مع أمها إلى مقابلة مدرسية سيتم على أساسها تحديد إن كانت الطفلة "تستحق القبول" في المدرسة المرموقة (ورث أكاديمي) أم لا. تتلعثم الطفلة وتخرج من المقابلة لتذهب مع أمها إلى المنزل الجديد حيث سيقيما معًا - بعد انفصال الوالدين - ليستعدا لمقابلة الفرصة الأخيرة في (ورث أكاديمي) بعد أسابيع قليلة، وهي الفترة التي وضعت فيها الأم لابنتها خطة شاملة للمذاكرة وتناول الطعام والنوم وهدايا أعياد الميلاد والحياة كلها! وتبدأ الطفلة - التي لم نعرف اسمها ولن نعرفه - في محاولة التأقلم مع خطة أمها، غير أن المنزل الجديد يتعرض لحادث صغير، وتُفاجأ الطفلة بكتلة معدنية ضخمة تنطلق من المنزل المجاور لتخترق جدار منزلها الجديد. تلك الكتلة الحديدية التي نكتشف أنها ليست سوى مروحة أمامية لطائرة من طراز عتيق! وتصل الشرطة ويأتي الضابط ليطلب من جارهم العجوز ألا يحاول تشغيل محرك طائرته مرة أخرى في ساحة منزله! ويدخل العجوز إلى منزله ليجلب برطمانًا كبيرًا زجاجيًا، امتلأ بالمئات من العملات المعدنية الصغيرة، ليعطيه للطفلة على سبيل تعويض الخسائر، ويعطي لأمها رسالة اعتذار ووردة تأخذهما الأم ثم تلقي - بمنتهى النظام - بالورقة في سلة مهملات، وبالوردة في سلة مهملات ثانية مخصصة للمواد العضوية! ويبدأ فضول الأطفال الفطري في دفع البنت لملاحظة العجوز العجيب وبيته الأعجب، وتراقبه فيراها فيلقي إليها من النافذة ورقة مطوية على شكل طائرة، وتبسطها البنت لنكتشف أنها ليست إلا الورقة الأولى - بكلماتها ورسومها - من حكاية الأمير الصغير. وتقرأ البنت أول الحكاية فينمو الفضول، وتفتح برطمان النقود الزجاجي وتفرغه على طاولة استعدادًا لعد العملات وتنظيمها، فتشعر بوخزة صغيرة في كفها المدفونة وسط تلال العملات، لتجد شيئًا كالإبرة الصغيرة، ثم تواصل البحث لتجد تمثالًا صغيرًا للغاية لولد ذهبي الشعر، يشبه - إلى حد مريب - ذلك الأمير الصغير المرسوم في الورقة. وتلاحظ البنت أن في يد الأمير الصغير فتحة دائرية تفهم المغزى منها على الفور، وتتناول الشيء الذي يشبه الإبرة لتثبته في موقعه المطابق في كف الأمير، ليعود سيف الأمير مسلولًا في قبضته.

 

وهنا تتغير صورة الفيلم تمامًا، فينتقل من الرسم والتحريك بالكمبيوتر إلى الرسم - بل التشكيل - والتحريك اليدوي بتقنية التصوير المتتابع (ستوب مُوشَن) ليروي طرفًا من القصة الأصلية، التي يبدو أن صانع الفيلم "مارك أوزبورن" قرر أن يحميها من تدخل الكمبيوتر، وأن يجعلها تتدفق على الشاشة بأيدٍ بشرية بالكامل رسمًا ونحتًا وتحريكًا. ونرى عالم الأمير الصغير الأصلي كدمى ورقية في عالم ورقي، في إشارة لطيفة إلى السحر الذي يسكن الورق، تلك المادة العجيبة التي تأتي من أصل حي ثم تُبعث كُتُبًا تحمل حيواتٍ حافلة.

 

إذن فنحن أمام فيلمين لا فيلم واحد. فيلم يروي القصة الأصلية بأسلوب جميل لائق، وفيلم يتناول إعادة تأويل للحكاية، يتدفق بمساحة من الحرية في الحبكة والحركة، حرية واعية تسمح باستيعاب مفردات العصر وأساليبه، دون المساس بروح الحكاية وجوهرها. ويتضافر الفيلمان معًا فننتقل من قصة الأمير مع الطيار إلى قصة الطيار مع البنت، وندرك أن الطيار ما هو إلا حلقة وصل بين ذلك الأمير الصغير القديم، وبين الفتاة بنت جيلها وعالمها، التي ما زالت تحمل فطرة الطفولة رغم كل ضغوط عالم الكبار. طفولة ترى بعين ثالثة، وتفهم ما توقف الكبار عن فهمه لما كبروا، وتدرك أن "كل ما له قيمة حقيقية لا يُرى بالعين وإنما بالقلب". لكنها طفولة تحت تهديد الكبار وأنظمتهم التي لا ترحم. طفولة أول مَن يحاول خنقها هو أول مَن يُفترض به حمايتها. ونرى البنت في أهم وأخطر فترات حياتها، بين خطة الأم المحكمة ونظام التعليم الصارم، وبين عالم الطيار العجوز الفوضوي المليء بالطائرات والحكايات والأوراق والنجوم والعملات المعدنية الصدئة التي لا قيمة لها إلا فيما تخبئه تلالها. بين منزلها الرمادي المرتب العصري وبين منزل العجوز الذي يشبه غابة استوائية منسية. بين والدها الغائب الذي لا يذكرها إلا كل عام مرة في يوم ميلادها، ويرسل لها هدية واحدة مكررة في كل عام هي كرة زجاجية باردة تحوي معالم مدينة ضبابية تراكمت الثلوج على شوارعها، وبين الطيار الذي شاركها حكاياته الفريدة وهواياته العجيبة، وأهدى إليها الأمير الصغير وعالمه. بين (الميكروسكوب) الذي أهدته لها أمها في عيد ميلادها ليكون إضافة ضرورية للاستعداد لعالم الدراسة، وبين (التلسكوب) الذي أخذها به الطيار إلى العالم الأكبر. بين كواكب عالم الأمير الصغير المتناثرة بين النجوم في فضاء بلا نهاية (تلك الكواكب الصغيرة التي لا تكاد تتسع إلا لشخص واحد، قد يكون ملكًا دون رعية أو رجل أعمال يحصي النجوم أو رجلًا مختالًا لا يطربه إلا المديح أو أميرًا صغيرًا وقع في حب وردة يحاول حمايتها طوال الوقت من الخراف الجائعة ومن أشجار الباوباب العملاقة اللعينة)، وبين كوكب الكبار، الذي يحكمه نظام رمادي رتيب لا يعرف الألوان، ولا يعترف إلا بالأشياء "الضرورية"، ولا يفهم رسوم الصغار، وخصوصًا تلك التي تُظهر أفاعٍ تقوم بالتهام فيَلة!

 

نرى البنت في لحظات التذبذب بين العالميْن، فنراها وهي تدخل إلى بيت الطيار لأول مرة فتخبره بأن المكان مليء بالأشياء الخطيرة التي يمكن أن يمسك بها اللهب وتحدث كارثة في أي لحظة، فيرد عليها بأن ذلك لم يجل بخاطره قبل ذلك قط! ويتعثر العجوز بالفعل في بعض هذه "الأشياء الخطيرة" ليسقط على ظهره أرضًا، ويُخرج - أمام ذهولها - شطيرة من جيبه، يخبرها بأنه يبقيها هناك تحسبًا لمثل تلك المواقف، ويعرض عليها مشاركته الشطيرة ويحمسها قائلًا: "إنه بولوني" (والبولوني هو نوع من اللحم المقدد) فتخبره بأن لديها حساسية منه، فيرد: "أعتقد أنه بولوني" فلا تعرف إن كان غير متأكد حقًا من محتوى الشطيرة، أم أنه يخبرها برأيه الصريح في قلقها بشأن الحساسية (فالبولوني، أيضًا، كلمة دارجة تستخدم في وصف الكلمات والأفكار السخيفة!). ونراها وهي تخبر العجوز بصعوبة تصديق أن قصة الأمير قد "حدثت بالفعل"، ثم نراها وهي تقف أمام "خطة حياتها" التي نصبتها أمها على الحائط الكبير وتفكر - في مشهد يستحق كل إعجاب - في أن أمها وخططها والحياة بذلك الأسلوب هي حياة مثيرة للتعجب والسخرية، تمامًا كحيوات سكان الكواكب التي زارها الأمير الصغير.

 

وتخلق حكاية الأمير الصغير صلةً متنامية بين البنت والطيار العجوز الذي يحكي لها الحكاية على حلقات متتالية تتخلل الفيلم وتخلب ألباب السامعين. وكان يكفي صانع الفيلم أن يصل العجوز بحكاية الأمير إلى نهايتها، فيصل بنا هو إلى ختام جميل للفيلم، بصداقة جديدة نادرة تتوطد بين روحين، ودروس بليغة لن تتعلمها البنت في (ورث أكاديمي) ولا في غيرها. لكنه - صانع الفيلم - أراد أن يتوج ضفيرة الحكايتين بحكاية ثالثة جامعة، تذهب فيها البنت في رحلة للبحث عن الأمير الصغير الذي يخبرها العجوز - في نهاية حكايته - بأنه لا يعرف على وجه اليقين إن كان قد نجح بالفعل في العودة إلى موطنه أم لا، لكنه - العجوز - يفضل أن "يؤمن" بأنه هناك.

 

وقرار القيام بهذه الرحلة كان مغامرة كبيرة ومجازفة شديدة الخطورة، لا بالنسبة للبنت فقط، بل بالنسبة لصانع الفيلم كذلك. فقد قدم "أوزبورن" حتى الآن مزيجًا شديد الصعوبة ونموذجًا شديد التفرد لعمل مرئي يحمل بأمانة روح العمل الأصلي المكتوب، ويحمل معه - بتوازن خلاب - روحًا أخرى جديدة فرضتها شخصية صناع الفيلم وفرضتها كذلك مفردات المتلقين ومفروضات زمنهم. فلماذا يا "أوزبورن" تخاطر بكتابة "جزء ثانٍ" لحكاية الأمير؟ وكيف لم يأخذك الرعب وأنت تنطلق مع بطلتك بطائرة العجوز المتهالكة لتبحثا عن الأمير الصغير ومصيره؟ سقطة واحدة فقط كانت تكفي تمامًا لتهوي الطائرة حطامًا على الرمال بعد رحلة ملحمية استحقت كل إعجاب من عرفوا الأمير الصغير وتعلقوا به.

 

لكن محرك الطائرة يستجيب، وتطير الطائرة بأعجوبة، وتندفع خارجة من ساحة بيت العجوز، وتحلق متجاوزةً أسوار (ورث أكاديمي) وأسوار المدينة كلها. وتحوم في سماء حالكة خالية من النجوم، وتظهر بقعة بعيدة مضيئة، نكتشف أنها كوكب مثل الكواكب التي مر بها الأمير الصغير في رحلته، ونصل إلى الكوكب الذي نراه من قرب أكبر كثيرًا، المأهول بالكثير من البشر الذين يتحركون طوال الوقت دخولًا وخروجًا من أبراجٍ شاهقة متشابهة، وسط عالم بدرجات الرمادي المختلفة من ظلال المباني وأشباح البشر، وإضاءات خاطفة لمصابيح السيارات الحمراء. وفوق سطح أحد الأبراج، نقابل شخصًا بزي أخضر مألوف وشعر ذهبي مميز، يحمل أدوات تنظيف لم تعد تستخدم للحفاظ على كويكب صغير، وإنما لتنظيف مداخن المصنع العملاق الذي يعمل به السيد "برينس" عامل النظافة، الذي كان يومًا الأمير الصغير.

 

"ليست المشكلة أن تكبر. المشكلة هي أن تنسى"، تومض كلمات الطيار العجوز في عقل البنت وهي ترى ما صار إليه الأمير، وتحاول أن تذكره بما نسي. "لم يكن من المفروض أن تصبح هكذا"، تخبره بعينين دامعتين. وتبدأ في اكتشاف حقيقة هذا الكوكب المرعبة. فهذا كوكب يحكمه رجل الأعمال (الذي رآه الأمير الصغير في رحلته يومًا) بقبضة شركة لا تكتفي بعد النجوم، بل تقوم بحصدها من السماء وتخزينها واستغلال كامل طاقتها لتشغيل المصانع التي تقوم بإعادة تدوير كل الأشياء "غير الضرورية" لتصبح "ضرورية"، فتصبح النجوم مصادر طاقة للإنتاج، ويصبح حديد الطائرات مشابك ورق معدنية، ويصبح رجل الأعمال ملِكًا فعليًا لهذا الكوكب الذي يمتص كل الكواكب الأخرى التي مر بها الأمير الصغير، فيصبح الرجل المختال شرطيًا لا يخدم في الحقيقة إلا رجل الأعمال، ويصبح الملك الذي بلا رعية عاملًا للمصعد في الشركة، يتوهم أنه هو من يوزع البشر على الطوابق (ونراه في لقطة لا تنسى، عندما تطلب البنت منه الذهاب إلى سطح البناية، فينظر إليها في تعالٍ فتسرع قائلة: "بالطبع إن أمكن ذلك، جلالتك!"، فيهمهم بشيء ما ونرى يده - وقد اختفى رأسه بين زحام ركاب المصعد - وهي ترتفع بطيئًا بصولجان ملكي ذهبي لتضغط زر الطابق المطلوب)، ويصبح الأمير الصغير نفسه موظفًا يجربه رجل الأعمال في أكثر من وظيفة ولا يرضيه أداؤه، حتى يوكل إليه في النهاية مهمة تنظيف المداخن.

 

لم تكن مجازفة "أوزبون" إذن إلا مطاردةً لأسئلة بديهية ستدور في عقول كل من قرأ وأحب "الأمير الصغير": كيف سيكون الأمير الصغير لو أنه جاء في عالمنا وزمننا هذا؟ وكيف سيستقبله المجتمع؟ ومَن - من سكان الكواكب التي زارها الأمير - يحكم اليوم هذا المجتمع؟ وكيف وضع القواعد؟ وكيف يضمن استمرار حكمه؟ في عالمنا يتضخم كوكب رجل الأعمال حتى يبتلع الكواكب الأخرى والنجوم أنفسها، ويبني خط إنتاج حديدي مصمم بدهاء لامتصاص طاقات كل شيء، وصبها جميعا فيما يخدم رؤية رجل الأعمال. وأول أدوات وَضْع القواعد وضمانات استمرار الحكم كانت (ورث أكاديمي) وأخواتها، المؤسسات "التعليمية" التي صنعها رجل الأعمال على عينه، لتضمن إمداده بأجيال متوافقة تمامًا مع العمل في خط الإنتاج العملاق، واستهلاك إنتاجه في الوقت نفسه. ومن هنا كانت "الطفولة" الحقة بفطرتها الساطعة أخطر أعداء استقرار الأمر بأيدي رجال الأعمال "الكبار"، ومن هنا كان الأمير الصغير تمثيلًا حيًا لكل ما يجب على هؤلاء الكبار ازدراءه ومعاداته والقضاء عليه من أجل الحفاظ على قواعد عالمهم، ومن هنا كانت أهم مهمات رجل الأعمال أن يحاول جعل الأمير الصغير يرضخ لعالم الكبار، وينسى العالم الذي ينتمي حقًا إليه.

 

لكن الحياة مدهشة بالفعل، وما يجعل الصحراء جميلة - كما قال الأمير الصغير - أنها تخفي بئرًا في مكان ما. وكلما ظن المرء أن سيطرة الكبار قد استحكمت، ظهر "أمير صغير" جديد هنا أو هناك، طفلٌ ثائر الشَّعر والشعور، عصيٌّ على التدجين، متشكك في نظام العالم. طفل يكبر - دون أن يلحق بالكبار - ليصير مثل البنت بطلة الفيلم أو مثل "مارك أوزبورن" صانع الفيلم أو مثل "أنطوان دى سانت اكزوبيري" صاحب الأمير الصغير، الذي رحل عن هذا العالم بالطريقة التي يليق بأمير صغير مثله أن يرحل بها، فاختفى بطائرته يومًا بين النجوم ولم يعد. اختفى في السماء التي قال عنها يومًا أن ما يجعلها جميلة هو أن فيها - في مكان ما - كويكبًا صغيرًا تحيا عليه وردة تنتظر عودة أميرها. اختفى وهو يحاول أن يطمئن على وصول أميره الصغير إلى موطنه السماوي، دون أن يدري أنه - بكتابة حكايته القصيرة - قد جعل له وطنًا حقيقيًا أبديًا، هنا على الأرض.

 

 

نُشر هذا المقال في الأصل على موقع الجزيرة الوثائقية.

 

 

تعليقات

اختيارات قراء هذا الأسبوع