حكايات وحشية: سينما القصة القصيرة | مقال

 حكايات وحشية: سينما القصة القصيرة





يبدأ الفيلم فوق السحاب. في طائرة يجلس بها رجل يحاول فتح حديث مع امرأة حسناء تجلس بجواره. يعرف منها أنها عارضة أزياء ويُعرِّفها بأنه ناقد موسيقي فتخبره بأنها كانت على علاقة برجل يعزف الموسيقى فيسألها عن اسمه فتجيبه: "جابرييل باسترناك". يذكر الرجل الاسمَ على الفور ويخبرها بأنه كان عضوًا في لجنة التحكيم التي رفضته، ويسألها إن كانت ما زالت على علاقة به فتخبره بأنها تركته منذ فترة. وهنا تتدخل سيدة عجوز تجلس أمامهما لتقاطعهما معتذرة بأنها سمعت اسم "جابرييل باسترناك" ولا تصدِّق المصادفة العجيبة، فهي كانت معلمة "باسترناك" في المدرسة، والذي كان على حد قولها من أفشل الطلاب الذين قابلتهم في تاريخ عملها! ويتدخل رجل آخر في الحديث بعد أن يكتشف أن العجوز هي معلمته أيضًا، وأن "جابرييل" كان زميله الذي كان يحب استعراض عضلاته عليه. هنا يبدأ جميع ركاب الطائرة في اكتشاف القاسم المشترك بينهم! كلهم عرفوا "باسترناك"، وكلهم آذوا "باسترناك" بطريقة أو بأخرى، وكلهم جاءتهم تذاكر الرحلة دون أن يقوم أحد منهم بشرائها. كلهم حتى المضيفة التي تأتي إليهم منهارة لتخبرهم بأنها هي أيضًا تعرف "باسترناك"، وبأنها رفضت دعوته للخروج معًا، وبأنه هو قائد هذه الطائرة! 


وهنا تتضح الصورة المفزعة للجميع، ويهرع طبيبه النفسي السابق –الذي نكتشف أنه هو أيضًا آذى "باسترناك" عندما رفع سعر جلساته قليلًا!– إلى باب كابينة القيادة ويحاول الصراخ عبر الباب الموصد: "توقف يا جابرييل ولا تقتلنا. لسنا السبب في كل ما حدث لك، وليس الذنب ذنبك أنت حتى. لقد أساء إليك والداك والذنب ذنبهما. أرجوك توقف". لكن "باسترناك" لا يتوقف، وتنتقل الكاميرا إلى خارج الطائرة. إلى الأرض، حيث يجلس عجوز وامرأته (من الواضح أنهما ليسا إلا والد "جابرييل" ووالدته) في حديقة منزلهما الصغير في صمت لا يعكر صفوه إلا تلك الطائرة التي كانت تقترب بسرعة من الأرض، لا نحو المطار بل نحو منزلهما! تقترب وتقترب و.....


وهذه هي البداية فقط! هذه هي القصة الأولى –والأقصر– من القصص الست القصيرة التي ضمها فيلم "حكايات وحشية" Wild Tales الذي كتبه وأخرجه المخرج الأرجنتيني اليهودي "داميان سيفرون" Damián Szifron، والذي رُشِّح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2015. بداية قصيرة سريعة تحبس الأنفاس، وقصة شديدة القصر والتكثيف والتشويق والإمتاع. بداية خاطفة يتبعها تتر الفيلم الذي يثير دهشتك كذلك عندما يَعرِض مع اسم كل مشارك في الفيلم صورة في الخلفية لحيوان من الحيوانات في بيئته الطبيعية، كأنك ستشاهد فيلمًا وثائقيًا عن الحياة البرية. ومع تتابع الحكايات تكتشف أن الفيلم بالفعل عن الحياة البرية بشكل من الأشكال.


تذكرتُ بعد مشاهدة الفيلم إحدى سلاسل بي بي سي الوثائقية الرائعة -كان عنوانها "الحياة" BBC Life- التي كانت تستعرض ألوانًا من السلوكيات العجيبة والمتطرفة التي تلجأ إليها الكائنات الحية حين تحتدم معارك البقاء. وهذا بالضبط هو القاسم المشترك بين السلسلة الوثائقية وبين فيلمنا هذا، الذي يتكون من ستة أفلام قصيرة منفصلة لا يربطها إلا حضور العنف والانتقام و"الوحشية" كما يشي العنوان. لا أعني هنا العنف والوحشية الخالصة، وإنما هي تلك "الخلطة" الذكية من العنف والكوميديا والإثارة التي أتقنها تمامًا المخرج الأمريكي الشهير كوينتن تارانتينو، الذي صارت له مدرسة في السينما وأتباعٌ، منهم -فيما يبدو- مخرجنا الأرجنتيني "سيفرون"، الذي يبدأ تتر الفيلم بموسيقى تذكِّر المُشاهِد بأجواء تارانتينو، وكأنه يخبر عشاق تارانتينو بأنهم على موعد مع فيلم سيعجبهم منذ لحظته الأولى. ومنذ اللحظة الأولى تتوالى القصص فتأخذ لب المتفرج ولا تترك له مساحة لالتقاط أنفاسه إلى تترات النهاية. فمن مصادفة عجيبة تقود رجلًا إلى مطعم خالٍ في ليلة ممطرة، لتقوم على خدمته فيه فتاة لها معه ثأر قديم، إلى رجلين يقودان على الطريق السريع ويحدث بينهما سوء تفاهم عادي لكنه يقودهما إلى نهاية غير عادية، إلى حادث سير يتسبب فيه ابن لأحد الرجال المهمين، وتأتي محاولات احتوائه بنتائج كارثية، إلى رجل يكتم غضبه من كل شيء حوله حتى تحين أخيرًا لحظة انفجاره، وأخيرًا إلى حفل زفاف تقليدي يوشك أن يتحول إلى كارثة بسبب قوة ملاحظة العروس!


لكن إبداع المخرج لا يتوقف عند إتقان تلك "الخلطة" فقط، بل يتعداه إلى ترك مساحات كبيرة للتأمل، رغم قصر القصص. وهذه هي نقطة تميز الفيلم في رأيي، فالقصة القصيرة هي فن يجمع بين إمتاع الرواية وتكثيف الشعر. والقصص القصيرة -كما ينبغي أن تكون- هي لحظات مختارة بعنايةٍ جراحية ميكروسكوبية من مشهد أكبر. لحظات تمثِّل المشهد كله وتشي بمعناه وبما وراء المعنى، مثلما تختصِر صورةٌ واحدة مكثفة آلافَ الكلمات ومئات المعاني. هذه هي روعة فن القصة القصيرة، الفن الذي أتقنه "سيفرون" إخراجًا وكتابةً، وأثبت أن القصة القصيرة (والفيلم القصير) يمكن ألا تقل أبدًا في جاذبية المحتوى عن الرواية (والفيلم الطويل)، بل تتفوق أحيانًا كما حدث هنا، وتصيب قلب المتلقي في الصميم كما حدث مع المشهد الختامي من القصة الثالثة، التي كانت بعنوان "الأقوى"، بمشهد لا يُنسى يجعلك -بعد دقائق متصلة من التسلية المحضة والإثارة الخالصة- تفكر عميقًا فيما شاهدته، وتتأمل في المقدمات والنتائج، وفي النوايا والمصائر، وفي الحياة كلها.


ولعل ذلك كان أحد مقاصد "سيفرون" عندما قرر كتابة تلك القصص التي يجمعها التعرض للمتطرف -والطريف- من سلوكيات البشر. فمثلما تدعونا وثائقيات الحياة البرية إلى التأمل في عجائب الخلق وسلوك المخلوقات، يدعونا فيلم "وايلد تيلز" بقصصه الوحشية إلى التأمل في عجائب القرارات والتصرفات التي قد يلجأ إليها البشر تحت ضغط الظروف والحوادث.


ويجب هنا لفت النظر إلى السهولة النسبية لإنتاج فيلم بهذه الجودة. فتكلفة الفيلم، الذي تم تصويره بالكامل في ثمانية أسابيع فقط، هي ثلاثة ملايين دولار تقريبًا (وقد حقق أرباحًا بعشرة أضعاف هذا المبلغ على الأقل!)، والنص المكتوب "السيناريو" لا يتعدى التسعين صفحة، تمامًا كعدد صفحات مجموعة قصصية صغيرة.


لم يكن بالطبع من قبيل المصادفة أن يختار "سيفرون" صورة الثعلب الأحمر خلفيةً لاسمه في تترات البداية، فليس الشعر الأحمر هو العامل الوحيد المشترك بينه وبين الثعلب، فالرجل يتميز بذكاء شديد يظهر في حبكات قصصه، وبخفة ظل تظهر على ألسنة أبطاله وتصرفاتهم، وبروح للعبث تظهر في إشاراته إلى مخرجين آخرين يحبهم، فالإشارات إلى تارانتينو لا تنتهي تقريبًا، من جو الانتقام والعنف والطرق السريعة والموسيقى وحتى وضع الكاميرا في الحقيبة الخلفية للسيارة وتصوير البطل من الأسفل وهو يفتح الحقيبة، والإشارات واضحة كذلك إلى العبقري "فينس جيليجان" مخرج وكاتب المسلسل الشهير "بريكنج باد"، في لقطة الطائرة التي تقترب من منزل هادئ في افتتاحية الفيلم، وفي تقنية تعليق الكاميرا على الباب لتتحرك عند فتحه وإغلاقه (في قصة حفل الزفاف).


هذا الثعلب الأرجنتيني الشاب الذي أتقن كل مهارات اصطياد المُشاهِد، يقدم تحفة سينمائية رائعة بكل المقاييس، قادرة على اجتذاب أطياف شديدة التباين من المشاهدين. من محبي الإثارة إلى الباحثين عما وراء المعاني. من عشاق القصص القصيرة إلى مدمني أفلام الحركة. من جمهور "تارانتينو" إلى مجاذيب "بريكنج باد". من الأرجنتينيين الذين أرهقتهم بلادهم، إلى المشاهدين من كل أنحاء العالم، الذين شعروا -طوال ساعتين كاملتين- بأنهم هم أيضًا أرجنتينيون، بصورة أو بأخرى.




نُشر هذا المقال في الأصل على موقع الجزيرة الوثائقية.

تعليقات

اختيارات قراء هذا الأسبوع