نجمة بحر | قصة


نجمة بحر
                                  


يقولون إن نجوم البحر تنسى كل شيء إذا خرجت من البحر، لكن نجمة البحر هذه احتفظَت - بطريقةٍ ما - بذاكرتها، فلم يزل بإمكانها استدعاء تلك الأيام البعيدة قبل أن تجد نفسها في حوض العرض الزجاجي، حينما كانت تُنادَى باسمها هي، لا باسم "النجمة" الذي لا تحبه.

هكذا كان يناديها سكان الحوض. كانوا يطلقون عليها في البداية اسم "نجمة البحر"، لكنهم اكتشفوا أنه اسم طويل بلا داعٍ، كما أن كلمة "البحر" كانت قد فقدَت معناها تقريبًا بالنسبة إليهم، فصار اسمها "نجمة". ثم رأت بعض الأسماك التي وُلدت في الحوض أنه اسم طويل كذلك، لذا كانوا يدعونها "نج" فقط.

كانت تمتعض من كل تلك الأسماء، لكنها على كل حال لم تعد تسمع اسمها يتردد كثيرًا، فقد قرر الجميع تقريبًا أنها لم تعد مبهجة لطيفة بعد أن تقدَّمَت في العُمر وتحوَّل لونها البرتقالي الزاهي إلى لون الرمال الشاحب، كما أنها صارت أكثر ميلًا للاختلاء بنفسها في ركن الحوض الوحيد الذي خلا من النباتات البلاستيكية باهتة الخضرة.

تقول سمكة الملاك إن نجمة البحر قد فقدت القدرة على الاستمتاع بالحياة هنا لأنها لم تعد تحب أحدًا. والدليل على ذلك أنها لم تعد تحكي حكاياتها الطريفة لأحد.

وكانت سمكة القط تقول: "هي لم تحب أحدًا منذ جاءت إلى هنا. كانت تتظاهر بذلك فقط لتصير محبوبة بيننا. هي أكثر غرورًا من أن يكون لها صديق!"

والسمكة السوداء العجوز التي لم يكن لها اسم كانت تقول: "هو خيالها المسموم. نصحتُها مرارًا بأن تكون أكثر واقعية. كثيرا ما تحدَّثَت عن ذاك المكان الذي كانت تعيش فيه من قبل، ومياهه الخضراء والزرقاء التي تتغير حرارتها كل ساعة، وأسماكه التي كانت تتحرك في أسراب هائلة، ونباتاته العملاقة التي لا يمكن لحوض أن يحتويها، وصخوره التي كانت تضج بالحياة، كما تزعم. لم تكف المسكينة عن أحلام اليقظة. نصحتُها كثيرًا أن تحاول التكيف مع حياتها هنا لأنها لن ترى ذلك المكان الآخر مرة أخرى، هذا إن كانَت قد رأته فعلًا كما تدَّعي!"

واحدٌ فقط كان يتكلم مع نجمة البحر لا عنها، هو حصان البحر الصغير الذي لم يرَ البحر في عمره قط، لكنه كان يصدِّق حكاياتها عنه، ويشتاق إلى تجربة الحياة في ذلك المكان الأسطوري.

كان كلامها يقل مع مرور الوقت، ويزداد اقتضابًا وغموضًا، لكنه لم يكن يزدد لها ولحديثها إلا حُبًّا.

وعندما رآها ذلك اليوم ساكنةً أكثر من المعتاد - حين خُيِّل إليه أن لونها البرتقالي القديم عاد إليها أخيرًا - فهم أنها قد عادت هي الأخرى إلى حيث تنتمي.

* * *

يقولون أن أحصنة البحر تنسى كل شيء إذا فقدَت رفاقها، لكن حصان البحر هذا كان يذكر جيدًا - رغم مرور السنين - آخر ما قالته نجمة البحر، حين سألها قبل رحيلها بأيامٍ عن اسمها الحقيقي، فأجابته بطريقتها المقتضبة:

"بحر"



أغسطس 2009



نُشرت هذه القصة للمرة الأولى على مدونتي القديمة "في النص" يوم 30 أغسطس 2009، ثم في كتابي "حكايات بعد النوم" في أبريل 2014، وأنشرها هنا مجددًا - بتعديلات بسيطة - إهداءً إلى روح أكثر من أحبَّها، صديقي محمد حازم، والذي كتبتُ له مؤخرًا قصة أخرى اسمها "العائدون" لعلها تُنشر قريبًا، ولعلنا نعود فنلتقي وأحكيها له وتعجبه.

تعليقات

اختيارات قراء هذا الأسبوع