هاياو ميازاكي: الرجل الذي لم يكن ديزني! | مقال
هاياو ميازاكي: الرجل الذي لم يكن ديزني!
مَن منا لم يسمع عن (والت ديزني)؟ ومَن منا سمع عن (هاياو ميازاكي)؟ سؤالان -بل سؤال واحد- شغلني البحث في إجابتهما طويلًا. فأنا لم أسمع عن (ميازاكي) بالصدفة أو أثناء التجول العشوائي في وسائل الإعلام، وإنما البحث هو الذي قادني إلى ذلك الساحر الحقيقي الذي أطلق عليه البعض -ظلمًا أو غفلةً- "والت ديزني الياباني".
ولد (هاياو ميازاكي Hayao Miyazaki) في طوكيو عام 1941، أي أنه كان طفلًا في الرابعة من عمره حينما ألقت أمريكا قنبلتيها الذريتين على اليابان، وقضى فترة طفولته وتكوين وعيه في تلك السنوات المظلمة في تاريخ اليابان وتاريخ العالم. تلك السنوات التي يبدو الآن أن العالم قد نسيها، وأن اليابان نفسها قد نست قبل أن ينسى العالم! لكن ميازاكي لم ينس. وهذا فارق مهم بين الفنان الحقيقي وبين العوام. العوام ينسون والفنان يُبتلى وحده بمصيبة التذكر. لذا لم يكن غريبًا أن تدور قصص ميازاكي المبكرة في عالم المانجا (القصص المصورة اليابانية) ثم الأنيمي (الرسوم المتحركة اليابانية) في عوالم "ما بعد الكارثة"، كقصة "ناوشيكا أميرة وادي الرياح Nausicaa of the Valley of the Wind" التي كتبها ورسمها ميازاكي ونشرت كسلسلة قصص مصورة عام 1982 ثم تحولت إلى فيلم متحرك عام 1984، والتي تدور أحداثها في عالم "خيالي" بعد ألف عام من حرب كونية كبرى دمرت الحضارات وأتت على أخضر العالم ويابسه ولم تذر سوى بعض الناجين وسط مساحات شاسعة من الأدغال المخيفة المليئة بالعناصر السامة والمخلوقات المشوهة (هذه الأجواء الخيالية لا تبدو غريبة تمامًا، أليس كذلك؟!)، ويقرر ميازاكي الاستمرار في تقديم أفلام رسوم متحركة من نفس النوعية، ويؤسس عام 1985 -مع عباقرة آخرين- "ستوديو جيبلي Studio Ghibli" والذي يختار له اسمًا يحمل معنيين هامين: أولهما ولعه الشديد بالطائرات (جيبلي هو اسم أحد طائرات كابروني الإيطالية التي شاركت في الحرب العالمية الثانية)، هذا الولع الذي بدأ منذ طفولته -كان أبوه وعمه يعملان في مجال تصميم الطائرات وكان هاياو الصغير يساعدهما كثيرًا- واستمر في الظهور في كل أفلامه تقريبًا حتى فيلمه الأخير "مهب الريح The Wind Rises" الذي يحكي بالأساس قصة فتى شغوف بالطيران والطائرات! وثانيهما: معنى اسم "جيبلي" نفسه الذي أخذته شركة الطائرات الإيطالية من اللغة العربية ومن اللهجة الليبية تحديدًا، التي تطلق على ما نعرفه برياح الخماسين اسم الريح "القِبلي"، وهو المعنى الذي تيمَّن به ميازاكي وشركاه الذي أملوا في أن يكونوا سببًا في هبوب رياح جديدة في عالم صناعة أفلام الرسوم المتحركة في اليابان وفي العالم.
وبعكس رياح القبلي العاصفة المحملة بالغبار، توالت نسائم "جيبلي" -منذ 1985- في رقة ورهافة، محملة بشذا أشجار الكرز اليابانية التي تحمل من الشجن قدر ما تحمل من الجمال. وكان فيلم "قلعة في السماء Castle in the Sky" (عام 1986) هو أول أفلام هاياو ميازاكي مع ستوديو جيبلي، وتدور قصته في عالم (خيالي أيضًا) وصلت فيه حضارات البشر إلى الرقي الذي جعلهم يشيدون مُدُنًا طائرة في السماء وسط السحاب، قبل أن تحدث كارثة كبرى (أيضًا!) تدمر جميع المدن الطائرة إلا "لابوتا" القلعة التي تظل طائرة في السماء إلى يومنا هذا والتي تتحول إلى أسطورة عند أهل الأرض جميعًا باستثناء بعض "غرباء الأطوار" الذين يؤمنون بوجودها حقًا ويفنون أعمارهم في البحث عنها! وتتوالى أفلام ميازاكي على نفس هذا المشرب العذب، وعلى ألحان رفيق دربه "جو هيسايشي Joe Hisaishi" التي تستطيع تحريك القلوب وحدها دون الحاجة إلى أية مؤثرات أخرى. ويأتي عام 1988 ويصدر فيلم "جاري توتورو My Neighbour Totoro" الذي يحكي قصة طفلتين ينتقلان مع أبيهما إلى منزل جديد ليكونوا أكثر قربًا من المستشفى الذي تعالج فيه أمهما المريضة (والدة ميازاكي -بالمناسبة- قضت وقتًا طويلًا على فراش المرض) ويستكشفان المنزل الجديد والغابة حوله بمخلوقاتها المسحورة، والتي يُطلقون على أعظمها اسم "توتورو"، حارس الغابة الضخم العجيب الذي يصير شكله المميز شعارًا بعدها لستوديو جيبلي. وتتوالى بعدها الأفلام مثل "كيكي لخدمة التوصيل Kiki's Delivery Service" عام 1989 عن فتاة تدرس السحر وتضطر إلى العمل بمقشتها المسحورة كعاملة توصيل للمنازل! و"بوركو روسو Porco Rosso" عام 1992عن طيار (مجددًا) متقاعد أصيب بلعنة غريبة جعلت شكله أقرب إلى الخنزير، ومغامراته لمطاردة قراصنة الجو، ثم الملحمة الرائعة "الأميرة مونونوكي Princess Mononoke" عام 1997 والتي تحكي عن العلاقة المعقدة بين الطبيعة والإنسان، ثم فيلم جيبلي الأشهر على الإطلاق "المخطوفة Spirited Away" عام 2001 الذي صار السبب الرئيسي فيما حظى به ميازاكي من الشهرة بعد ذلك، والذي حقق نجاحًا مدويًا في اليابان إلى درجة أنه صار أكثر الأفلام تحقيقًا للإيرادات في تاريخ اليابان، ونال وقتها جائزة أوسكار أفضل فيلم متحرك طويل. ويستمر ميازاكي في تقديم روائعه حتى يصل -في رأيي- إلى ذروة إبداعه في فيلم "قلعة هاول المتحركة Howl's Moving Castle" عام 2004 الذي أعتبره فيلمي المفضل بين أعماله ومن أفضل ما شاهدت من أفلام على الإطلاق. ثم يأتي فيلم "بونيو Ponyo" عام 2008 وفيلمه الأخير "مهب الريح The Wind Rises" عام 2013.
وهذه هي كل أفلام ميازاكي الطويلة، التي يبلغ عددها -بإضافة فيلمه الأقدم "قلعة كاليوسترو The Castle of Cagliostro" عام 1979- أحد عشر فيلمًا فقط. وهو عدد قليل نسبيًا، أقل من أن يبرر تلك المكانة الاستثنائية التي يحتلها "ميازاكي" في تاريخ الرسوم المتحركة. فما سر مكانة ميازاكي؟ وما سر تضاؤل شهرته تمامًا بالمقارنة بوالت ديزني؟
قادني بحثي عن إجابة السؤالين إلى العديد من الفروق الجوهرية بين ميازاكي وديزني. فديزني اعتمد في أفلامه الأولى على الحكايات الخرافية الشعبية الموروثة (التي لم يكتبها هو بنفسه) مثل سندريلا وسنو وايت. قصص يعرفها الجمهور بالفعل ونجاحها المادي مضمون. بينما كان ميازاكي -منذ بداياته- يخلق قصصه الخرافية الخاصة، قصصه المليئة بالكائنات العجيبة والأحداث غير المتوقعة. قصصه التي لا يعرفها الجمهور ولا حتى يعرف لها شبيهًا. ديزني كان حريصًا على تقديم ما يألفه عامة الجمهور، وما يطلبونه. الجمهور الذي لا يريد إلا قضاء وقت لطيف في السينما بصحبة أطفالهم. بينما كان ميازاكي يريد أن يصحب الكبار قبل الصغار في رحلة مذهلة في خياله الخاص. ميازاكي لم يكتب قط قصة كاملة لأفلامه، بل كان يرسم الشخصيات لقطة بلقطة ويجعلها -على حد تعبيره- تقرر مصائرها بأنفسها. لا أحد يمكنه توقع نهاية فيلم لميازاكي، حتى ميازاكي نفسه! مع ديزني يمكنك توقع كل شيء تقريبًا. بداية من مظهر البطل والبطلة (بطل وبطلة؟ حسنًا لا بد من قصة حب مؤثرة!) مرورًا بالمشاكل التي ستواجههما والعدو الشرير ودوافعه وملامحه ونظراته الخبيثة وطريقة حديثه ونبرة صوته، وانتهاءً بالنهاية السعيدة التي ينتصر فيها البطل والبطلة وحبهما الذي يقهر كل الصعاب وكل الشر في الدنيا! في ديزني ستعرف البطل على الفور من ملامحه المثالية ودوافعه البسيطة وأحلامه الساذجة، وستعرف البطلة (ستكون أميرة بالفعل أو ستصير أميرة في النهاية، لا يهم!) من مظهرها اللائق بعارضة أزياء (ورموشها. بالطبع رموشها!) وأحلامها الأكثر سذاجة حتى من البطل (نعم، كل حلمها في الغالب هو أن يحبها البطل) وصوتها العذب الذي لن يجعلها تتحمل قضاء أكثر من ربع ساعة من وقت الفيلم دون أن تغني لنا أغنية، وستعرف الشرير فور أن يعقد حاجبيه الرهيبين أمامك ويضحك ضحكته المدوية. لكن اطمئن، فأي شرير في أفلام ديزني مهما بلغ شرُّه محكوم عليه بفشل كل مخططاته الشريرة قبل أن يبدأ الفيلم. قصص ميازاكي أيضًا مليئة بالكائنات المخيفة، مثل ذلك الكائن -في فيلم Spirited Away- الذي يبدو كظل ويرتدي قناعًا على وجهه طوال الوقت. ستشعر بالخوف منه لبعض الوقت، لكنك لا تفهم لخوفك سببًا، ثم سيتبدد ذلك الخوف وتحل الشفقة محله وقد تفهم الأسباب أو لا تفهم. ومثل تلك الساحرة الشمطاء في فيلم Howl's Moving Castle والتي ستشعر بالنفور الشديد منها في البداية، ثم تتفاجأ بالتغير الجذري الذي يحدث لها، ثم تتسرب الكراهية من قلبك ولا تدري أين ذهبت، ويتسلل شعور جديد ناحيتها لا تدري حتى ما هو!
مع ميازاكي ليس مهمًا أن تفهم ما يحدث بالضبط، وربما يصير من المهم أحيانًا ألا تفهم. لن يقدم إليك ميازاكي أبدًا الخير الأبيض على اليمين والشر الأسود على الشمال، بل سيجعلك ترى الأبيض والأسود كمربعات الشطرنج المتداخلة فيما بينها، حتى إنك إذا نظرت من بعيد لن ترى الأبيض والأسود بل مساحات متباينة السطوع من درجات اللون الرمادي. فحتى مع ثنائية البشر والطبيعة الحاضرة دومًا في أفلامه، لا تعرف -مثلًا- إن كان ميازاكي من المتحمسين للتقدم التكنولوجي الذي يحرزه البشر أم من المحذرين منه. فهو يقدم لك أجمل ما في الطبيعة في نفس الفيلم الذي يظهر فيه أقسى وجوهها، ويقدم لك الكوارث التي تسببت فيها تكنولوجيا البشر ثم يجعلك تمتع عينيك وقلبك بالتحليق مع نماذج من أروع الآلات الطائرة التي يصممها في أفلامه.
مع ميازاكي لن تكون البطلة دائمًا أميرة في انتظار حب الأمير. الحب عند ميازاكي يمكن أن يحدث -بذات السهولة- بين ابنة وأمها، أو بين طفلة وكائن أسطوري، أو بين ساحرة وقطها، أو بين طفلة وتنين! بينما يتلوى مفهوم الحب في ديزني حسب استطلاعات الرأي الجماهيرية! فالحب في أفلام ديزني المبكرة كان حب الأميرة للأمير، وفي أفلامهم الأخيرة -بعدما صارت سلبية المرأة واعتمادها على الرجل أمرًا مستهجنًا في نظر الرأي العام- صار حب البطلة لحريتها واستقلالها ونجاحها. ديزني لا يريد سوى أن يجعلك تشعر بالرضا عن نفسك وعن حياتك. سيقدم لك الحيوانات والطيور -وحتى الجمادات- وهي تتصرف وتتحرك وتتكلم مثلك. مثل رجل الشارع. ديزني يريدك أن تضحك. أن تشعر معه بالألفة والانبساط. ديزني رسام متوسط الموهبة (كما تشهد بذلك رسومه الأولى) لكنه رجل أعمال من طراز فريد. ديزني لن يبيع لك إلا ما تريد شراؤه. لذلك كانت ستوديوهات ديزني مستعدة تمامًا للتخلي في أول فرصة عن الرسم اليدوي لصالح الرسم والتحريك بالكمبيوتر. الجمهور يريد الجديد فلماذا نقدم أفلامًا ذات بُعدين فقط بينما تستطيع أموالنا شراء البُعد الثالث؟ ولماذا نغامر بكتابة قصص أصلية جديدة ونجاح قصصنا القديمة -المأخوذة من قصص أقدم- مضمون؟ فلنعد إنتاج كل أفلامنا الناجحة مرة واثنتين وثلاث (مرة بالرسوم المتحركة ومرة كفيلم كامل يظهر فيه الممثلون ومرة من وجهة نظر الشرير) ولنتبع كل قصة ناجحة بأجزاء تالية، طالما في إمكاننا تحقيق الربح.
لكن ميازاكي لم يقدم قط فيلمًا مبنيًا على قصة فيلم آخر. لم نر "عودة توتورو" أو "القلعة الأخرى في السماء" أو "بونيو 2: رحلة إلى أعماق المحيط". ميازاكي لم يهتم كذلك بمواكبة أفلامه للتكنولوجيا وتحويلها إلى أفلام ثلاثية الأبعاد (وأفلام ميازاكي تحتوي على ما يكفي ويزيد من الأبعاد!) فلا تكاد تلحظ الفارق في الصورة بين فيلمه الأخير وبين أفلامه الأولى. نفس الرسوم الرقيقة والألوان الرائقة والتعبيرات الدقيقة على الوجوه والحركات الخافتة للأجسام. ميازاكي لم يرد قط أن يُشعِر المُشاهِد بالرضا أو الاقتناع. ميازاكي لم يكن يرسم إلا لينقل شعور أبطاله، ولم يكن يكتب إلا ليسمح لهم بإدهاشنا كبارًا وصغارًا. ميازاكي الذي سأله أحدهم إن كانت أفلامه مفهومة للأطفال فأجابه بأنه لا يشعر أنه يريد أن يعطي للطفل شيئًا يفهمه على الفور، وإنما يفضل أن يعطيه شيئًا يشعر به ويدركه من بعيد، وأن يترك للزمن مهمة تعميق الفهم.
ميازاكي -والحق يقال- لا يمتلك مقومات رجل الأعمال الناجح. رجل الأعمال الناجح لا يقرر الاعتزال وهو في قمة مجده، لكن ميازاكي يفاجئ محبيه بإعلان اعتزاله في سبتمبر 2013. بأن فيلمه الأخير هو فيلمه الأخير فعلًا. وتصرح إدارة ستوديو جيبلي بعدها -في أغسطس 2014- بأن عملهم على أفلام جديدة سيتوقف مؤقتًا للتأمل في مستقبلهم بعد اعتزال المؤسس الأسطوري، وهو التصريح الذي رأى فيه الكثير من محبي أفلام جيبلي إيذانًا بإغلاق ستوديو جيبلي إلى الأبد. ميازاكي لم يفكر قط في إنشاء "ميازاكي لاند" ولا "قنوات ميازاكي" وإنما كانت كل تركته متحف صغير باسم ستوديو جيبلي لا باسمه هو، وأحد عشر كوكبًا دُرِّيًا ستظل مُعلقةً في سماء الإبداع البشري ما دام على وجه الأرض من يعرف الجمال حين يراه، ومن يذكره حين ينساه الناس.
نُشر هذا المقال في الأصل على موقع الجزيرة الوثائقية.
شكرًا لكَ على جمال المقال، وأحببت فكرة تخليصك له من مُلصَق "ديزني اليابان" الذي لا يُحجّم إبداعه فحسب، وإنّما يًحيله إلى مقاييس لا ترقى للمقارنة بها من الأساس. يكفي أنّ فكرة دبلجته إلى الإنجليزيّة تُقلّص من جمال اللغة اليابانية على نحو متعالٍ في رأيي، لأن مشاهدته باليابانية كلغة أصلية مع الترجمة هي التجربة التي يجب أن يخوضها (المُشاهد البالغ على الأقل)، لا الدبلجة العاملة على أَمركته على طريقة ديزني.
ردحذفالشكر لكِ على اهتمامك بقراءة هذا المقال الطويل الغاضب من عالم صار يضع أمثال ميازاكي في مقارنات مع أمثال ديزني.
حذف