حديث الليل والفجر | قصة


حديث الليل والفجر

  
أظُن أنه كان الثلث الأخير من الليل حينما وجدتُ نفسي أمام ذلك المسجد القائم وحده في ظلام الصحراء المحتضِر. وكان المشهد كله غارقًا في الزُّرقة الداكنة، لكنني تبيَّنتُ المعالم الخارجية لمئذنة وحيدة شاهقة، بَدَت لي -في هذه العتمة- كأنها تصعد في السماء بلا نهاية.

وكانت الأنغام المتقطعة المبهمة -الشبيهة بابتهالات الفجر- آتية من مكان بعيد، وبدا كأن الهواء يحملها من أطراف الصحراء إلى حَرَم المسجد.

وعندما انتبهتُ إلى تلك الأصوات الخفيضة عند المدخل، أبصرتُ الشبح الخارج من المسجد، وشعرت أنني أعرفه جيدًا. وعندما اقتربتُ أكثر شهقتُ في دهشة: "أنت؟!"

كانت عيناه محتجبتين خلف انعكاسات أضواء الفجر الشاحبة على زجاج نظارته، وكان وجهه مائلًا عني بزاوية صغيرة، فلم أكن أعرف يقينًا إن كان ينظر فعلًا إلى عينيّ.

"كيف أراكَ هكذا؟ ألم.. أعني.. أما زلتَ حيًّا يا سيدي؟"   
                                            
تنفرج شفتاه قليلًا -دون كلمة واحدة- لترتسم فوقهما ابتسامته الهادئة الحَيِيَّة التي عرفتُها في أكثر صُوَره.

"لا أعرف إن كان هذا حلما، لكنني سعيد جدًا برؤيتك. أنا أحبك حقا، وأظن أنني أفهمك جيدا. لم أنتهِ بعد من القراءة لكنني أدرك ما كنتَ ترمي إليه. لكن.."

وقطعتُ كلامي عندما رأيته يلتفت -بجسده كله- نحو الشبح الآخر الذي كان يتقدم ببطء -وبعرج خفيف- في اتجاه المسجد.

"سيدي. أرجو أن تتكلم. أنت تعرف ما أتحدث عنه، أليس كذلك؟ لماذا لا ترد؟ ألستَ أنتَ (نجيب محفوظ)؟!"

وكانت أنغام متقطعة مبهمة -تشبه أذان الفجر- تأتي من المجهول، عندما اتضحَت لي -على ضوء قطرات النور الأولى- ملامح (نجيب محفوظ) الآخر الذي كان يخطو نحو المدخل، شاخصًا ببصره إلى المئذنة الوحيدة الشاهقة التي بدأ النور يكشف للعيون أنها كانت تصعد -بالفعل- في السماء بلا نهاية.


يونيو 2012


نُشرت هذه القصة ضمن قصص كتاب "حكايات بعد النوم" الذي صدرت طبعته الأولى في أبريل 2014، والصورة بعدسة المؤلف لشارع المعز لدين الله الفاطمي.

تعليقات

اختيارات قراء هذا الأسبوع