رمضان كريم من البُعد إكس | مقال
رمضان كريم من البُعد إكس
رمضان كريم: مبتدأ وخبر. ركنا الجملة الاسمية الذي يقبل أحدهما فقط التصديق أو التكذيب. نحن اليوم في عالم يزاحمنا فيه ألف ألف ألف مبتدأ، لكننا لا نصادف الخبر الصادق إلا فيما ندر. ورغم أن الخبر لا يثبُت حول قصة مَن قال "رمضان كريم" لأول مرة، إلا إننا نعرف في قلوبنا أن رمضان صدقًا كريم. يقال أن أول مَن قالها كان المعز لدين الله الفاطمي حين دخل مصر فوجد معيشة أهلها ضنكًا، وحين سأله الناس أن يعطيهم أجابهم بالعبارة التي كُتب لها الخلود.
رمضان كريم، وأنا شخصيًا أصدق ذلك منذ الطفولة. كان رمضان يأتي في الدراسة، ولم أكن أعرف حينها مَن صار بعد ذلك من أقرب الكُتَّاب إلى قلبي، الأمريكي هوارد فيليبس لافكرافت، الذي يقول في قصيدته (من النسيان):
"ليسَ مِن رعبٍ
يتجاوزُ في فظاعته
العذابَ اليوميَّ
للحياة المألوفة."
ولقد عرفتُ بعد ذلك أصنافًا من الرعب، لكن لافكرافت أثبت لي مرارًا مدى صدق خبره هذا. منذ أيام الطفولة وحياة الدراسة لا تُحتمَل. وحتى الإجازة الصيفية لم تكن تبدو لي أكثر من عَدَّاد تنازلي سريع لعودة الدراسة. كانت الإجازة تأتي في مواعيدها المحددة مسبقًا، لأقضيها في اتباع نظام آخر مُعَدّ بدوره "للاستفادة" من أيام الصيف. نظام محكم من الرتابة الفظيعة يسرق بلا رحمة أجمل أيام العمر. وهنا، حين يبدو أن هذا النظام قد استحوذ على وجوه الحياة كلها، كان يأتي رمضان.
من تمام كرم رمضان أنه لم يكن يعلن عن موعد قدومه بالضبط إلا قبل يومٍ أو يومين، فيترك لنا حينها بعض ما افتقدناه من مشاعر الترقب. يستطيع رمضان أن يأتي في الصيف وفي الشتاء، في الإجازة أو في قلب موسم الامتحانات. لكنه حين يأتي -وهذا هو الأهم- كان يهدم بيديه الكريمتين كل قواعد النظام الذي يحاول التهام أعمارنا.
في صباحات الدراسة كان نظام الرتابة هذا يسمح للأطفال بمشاهدة فقرة كارتون في برنامج صباح الخير يا مصر. فقرة لم تكن تتجاوز -وفق تقديري حينها على الأقل- الدقيقتين، ثم يقرر السيد المسئول عن الفقرة أن يقطع الكارتون في ذروة أحداثه، فقط لأن الوقت قد حان لهؤلاء الصغار الأشقياء أن يستعدوا للذهاب إلى المدرسة. أي عذاب جحيمي يا صديقي لافكرافت! والأدهى أننا كنا نصبر على إعادة فيلم الكارتون الواحد لعشرات المرات، مع أمل أحمق -كل مرة- في أن يرحمنا السيد المسئول ويترك الكارتون لبضع ثوانٍ أخرى فقط. كان هذا الشيطان قادرًا طوال الوقت على أن يجزئ لنا الفيلم على يومين أو ثلاثة، يبدأ من حيث انتهى في اليوم السابق. لكنه لم يحدث قط، ولم ننسَ قط.
كان هذا هو الوضع قبل أن يتدخل رمضان الكريم ذات سنة بعيدة ليهدينا لأول مرة -وفي أجمل لحظات يومه الجديد كليًا الذي يبدأ، أو ينتهي، بالإفطار- كارتون سلاحف النينجا. حلقات كاملة هذه المرة وبالترتيب، وعوالم من خيال جامح تجذبني معها -حتى اليوم، يجب أن أعترف- وتسلبني القدرة على الرمش بعيني كي لا تفوتني تفصيلة واحدة، حتى من تتر المقدمة التي كان الصوت الساحر فيها -استنتجتُ مؤخرًا أنه كان صوت طارق نور ولا بد- بأسماء أبطالي الجدد، بينما يتقافز ليوناردو ومايكل أنجلو ورفاييل -كان حينها يُنطَق رفايللو- ودوناتيللو في الهواء في تحدٍّ صريح لقوانين الجاذبية الأرضية، ويتراجع سبلنتر -كان اسمه حينها المعلم رشدان- إلى الوراء في ذعر وهو ينمسخ بالتدريج إلى جرذ، في حين يشق شريدر -الذي كان يملك اسمًا عربيًا فريدًا هو فَرَّام- بالنصال المخيفة فوق ساعديه ذلك الستار المظلم على الشاشة. الستار الأخير الذي كان يقف بيننا وبين السقوط الحر في تلك الدوامة السحرية التي انفتحت -ذات ليلة من رمضان قديم كريم- بين عالمنا الرتيب وبين البُعد إكس، حيث تتزاحم عوالم الخيال الجميلة المدهشة بلا نهاية وبلا حدود، وتخبرنا عن حياتنا الحقيقية ما لا يتصوره واقعنا الذي يرزح تحت جحيم الرتابة.
في رمضان اختلَّت دائمًا مواعيد النوم ومواعيد الاستيقاظ، وأسبابه، ومواعيد اليوم كله وإيقاعه. كانت الدنيا كلها في الدقائق الأخيرة قبل أذان المغرب تبدو كلمحةٍ من عالم خالٍ فسيح عتيق لم نعرفه رغم كل ما يتركه في قلوبنا من الوجيب والحنين. حتى البيض المسلوق على السحور كان له طعم يختلف بالكلية عن طعم بيض إفطار ما قبل المدرسة، الذي كان يُسلق -على ما يبدو- في القليل من الماء والكثير من القلق.
كانت أيام رمضان المعدودات تنقضي دائمًا بسرعةٍ تليق بمرور أهل الكرم. لكنها -كما يليق بآثار أهل الكرم- لم تكن حقًّا تمضي. كان رمضان يكرر زيارته كل عام هازئًا من نظام الرتابة، ومقوِّضًا لأركانه، وكاشفًا لنفوسنا الطفلة عن لمحاتٍ من عالم جديد ممكن رغم كل شيء، ومانحًا لقلوبنا -التي لم تكن الرتابة قد كلَّسَت كل جدرانها بعد- لحظات من السعادة الصافية، وجواهر من ذكريات ستعيش فينا أبدًا، وستُذكِّرنا ربما -حين يُخيَّل إلينا أن الدنيا كلها قد أجدبَت- بأن رمضان الكريم آتٍ وإن طال الانتظار، وبأن الله -دائمًا وأبدًا- أكرم.
نُشر هذا المقال في الأصل في جريدة الشروق.
تعليقات
إرسال تعليق