في شارع البحر الكبير | قصة
في شارع البحر الكبير
لم يحب (ب) -الساكن في 10 شارع البحر الكبير- اللغةَ الفرنسية قط. ورغم هوسه بالبحث على الإنترنت عن كل شيء ممكن، لم يسعَ يومًا إلى الاطلاع على ترجمةٍ لأغنية المطربة الفرنسية الشابة «أليزيه» التي داهمَت قلبه قبل سنوات ذات ليلة ربيعية وهو يطوف في يوتيوب على غير هدى. وفي الحقيقة لم يكن بحثه عن معاني الكلمات ليغنيه شيئا، فحتى عندما صدرت نسخة إنجليزية رسمية من الأغنية كانت مثارًا لسخرية مَن يفهم اللغتين، بدايةً من العنوان الإنجليزي «أنا مللتُ» الذي فشل في ترك انطباع العنوان الفرنسي من قريبٍ أو بعيد، ووصولًا إلى الاختلاف السخيف بين اسم السمكة المذكورة في الأغنية، والتي يسميها الإنجليز بالسمكة الذهبية ويصر الفرنسيون على أنها السمكة الحمراء، بينما يعرف أي طفل في العالم أن البرتقالي هو أقرب وصف ممكن للونها البراق الذي لم يختلف حول جماله أحد.
لم يعرف (ب) المسكين أي سهام «أليزيه» أصاب قلبه أولا. لكنها عندما تمايلت مع الموسيقى ذاب قلبه في تموجات الهواء حول أطرافها، وأيقن أن ثمة سمكة صغيرة تائهة في مكانٍ ما بين الكلمات، رغم أنه لم يدرك من الأصل اللحظة التي انتهت فيها الموسيقا من مقدمتها لتسلِّم الميكروفون إلى الصوت الذي تمايلت أنغامه بدورها في نعومة بالغة بين أمواج اللحن.
كحبة سكر صغيرة جدًّا، ذابت أليزيه سريعًا في بحور الأعوام التالية. لكن (ب) كان يسخِّر مهاراته في البحث ليمسك بها كل بضع سنوات وهي تعيد أداء أغنيتها على المسرح أمام جمهور لا يَظن أنه أدرك النسخةَ الأولى، ليس مثله على الأقل. لم يتغير الصوت قط لكن اختياراتها في الملابس كانت تتجه كل مرة إلى الوقار أكثر. أما الرقص القديم المحموم فقد خمد لهبه مع الوقت حتى صار يُذكِّره بالارتعاش الأخير لسمكة ترقد في الشمس بين شباك الصيد. وقد تباعدَت السنوات بين اللقاءات الجديدة، لكنه كان يغالب -بصعوبة بالغة- نداءً داخليًّا بالبحث عن أخبارها الشخصية، ويحاول أن يكتفي بالعودة إلى التسجيلات القديمة، ويتساءل كيف ستبدو «أليزيه» في المرة القادمة، ويعيش على أملٍ أن يمهله العُمر حتى يعرف الإجابة.
أما (أ) -الساكنة في 11 شارع البحر الكبير- فلم تلحظ الميل المتسرب إلى قلبها للممثل الأمريكي «بِن أفليك» إلا في السنوات الأخيرة. قد يتخيل البعض أن تجسيده لباتمان هو السبب، لكنها شاهدت الفيلم مرات وتعرف أن الأمر لم يبدأ فعلًا إلا بعد حوار مصوَّر مع «أفليك» بدا فيه نادمًا على لعب دور باتمان بطريقة تدعو للرثاء.
هكذا لم تغفر (أ) قط الظلمَ الذي تعرض له الرجل في فيلم «جون جيرل». هذا تمثيل بالطبع وهي تعلم ذلك جيدًا، لكنها كانت تنظر في عينيه وترى روحه المعذَّبة عميقًا خلف قناع الدور. تعرف جيدًا أنه لم يكن يومًا ممثلًا رائعًا، ولهذا لا تشك لحظةً في صدق شعورها بشيءٍ ما يجثم على صدره طوال الوقت. ودَّت لو أرسلَت إلى صناع الفيلم -وبالذات تلك اللعينة التي قامت بدور زوجته- ما يشرح لهم أن نفسية «بِن» تمر هذه الأيام بمرحلة في غاية الهشاشة، لن تتحمل معها في الغالب ما يفرضه القيام بهذا الدور الثقيل.
وبرغم ما تدعيه طوال الوقت من تواضعِ مهاراتها البحثية، صارت (أ) تعرف كل شيء تقريبًا عن النجم الكبير، حتى قبل أن تعثر على ذلك الكتاب بعنوان: «دليلك إلى بن أفليك: كل ما تريد معرفته عن بن أفليك». ضحكَت كثيرًا عندما قرأت عنوان الكتاب للمرة الأولى، ثم شعرت بشفقة كبيرة تجتاحها وهي ترى الابتسامة المنكسرة المألوفة على الغلاف، ثم احمرَّت غضبًا وهي تستعرض تقييمات قراء الكتاب على موقع جودريدز، لتجد تقييمًا واحدًا لا غير، بنجمتين من أصل خمسة، من امرأةٍ تُدعى «كيثي لُو» تضع لصفحتها صورةَ فتاة تتأمل حمامَ سباحةٍ تنتشر فيه الدماء. لأسبابٍ لا تعرفها تمامًا، ذكَّرَتها الصورة، مع الاسم، بالزوجة في «جون جيرل». وقالت لنفسها إنها إن لم تستطع مواساة «بِن» في هذه الحياة، فلسوف تقضي ما تبقى من عمرها في مهمة ثأرٍ طويلة من الشيطانة التي عذَّبته كل هذا العذاب.
30/6/2020
كم يعجبني هذا الأسلوب وهذه الرؤية للسرد، وهي من القصص التي سأعود لاقرأها لاحقا واجد فيها شيئا جديداً سقط من قرآتي السابقة، وهكذا دواليك مثل جميع القصص(الحكايات؟) السابقة لك أستاذنا.
ردحذفوربما أستبق الأمر قليلا وألمح الى انه ربما اقتربت فرصة الظهور لحكايات بعد النوم 2 ليرى النور بعد سبات (أو اي عنوان آخر يحاول التنكر للمصير المحتوم) ولا أشك أن كثير من القصص لا تلقا رواجا عند كاتبها قدر ما هي عند من يقرأها ويترقبهاً.
شكرآ على مشاركة ما تكتب.
وكم تسعدني في كل مرة قراءة تعليقاتك. ولهذا أتمنى طبعًا أن تعاود قراءة القصص وتعاود التعليق عليها إذا وجدتَ فيها بالفعل شيئًا جديدًا. والحقيقة أن هذه القصة فعلا من كتابي القصصي الثاني، المكتمل منذ شهور عديدة. لا أعرف متى سينشر أو ما إذا كان سينشر أصلا، لكنني أحاول كل فترة أن أقدم منه قصة، لعلها تجد في انتظارها قارئًا مثلك. فالشكر كله لك.
حذفرائع
ردحذفأشكرك
حذف.أين أنت ياأحمد العزيز. وحشتني جدا. هل فتحت تليفونك. وجدت هذا الموقع عندما شعرت برغبة قوية في الاطمئنان عليك . وسرني بحرك النقي والملون دائما. سأحاول الاتصال بك غدا. محمد المخزنجي
ردحذفهذا الموقع نوَّر بكلماتك والله. وهذه القصة يكفيها شرف تعليقك عليها. من أجمل المفاجآت التي حدثت لي. أفتقدك بشدة وفي خاطري دائما.
حذف