الأكبر: أغنية ليونيو وديسمبر | قصة

 


2006 ميلادية


قابلتُ رضوى بين دفَّتي كتاب قبل أن أراها بعيني. كنت أذهب إلى مكتبة الإسكندرية لأقرأ كتابًا لم أستطع العثور على أي نسخة منه خارجها. رواية مترجَمة لكاتب سكندري يوناني، ربما لم تكن حينئذٍ لتجذبني لولا معرفتي بندرتها. عند الصفحة السادسة وجدتُ ورقة صغيرة كُتِب عليها بقلم رصاص وبخط طفولي: "كأنها إسكندرية أخرى". حين وصلتُ إلى الصفحة الرابعة والثمانين وجدتُ نفسي أكتب: "كيف لم أحاول التعرف عليها؟". وربما لن يصدِّقني أحد -لكنني لا أهتم، فهذه القصة تمتلئ بما لن يصدِّقه أحد- حين أقول إنني تعرفتُ على رضوى بهذه الصُّدفة وبتلك الرسائل. أتمَّت هي قراءة الرواية قبلي، لكنها كانت تعود لتقرأ ما أكتبه لها إلى أن أنهيتُ الكتاب بدوري. حينها كنتُ أعرف رضوى بدرجة تكفي لأن أثق بأنها ستفهمني عندما أكتب لها بضعة أرقام مع عبارة "عند البحر الكبير". وفي التاريخ والموعد المحدديْن بالأرقام شققتُ طريقي بين رفوف المكتبة إلى كتاب (البحر الكبير) لأجدها واقفة تتصفح الكتاب الضخم، وقد استخرجَت من بين صفحاته زهرة البونسيانا.


331 قبل الميلاد


الإسكندر الذي فتح نصف الأرض لم يملك سوى أن يتوقف أمام شجرة الرَّنْف المَلَكي التي لم يَرَ مثلها في البلاد. كانت تقف وحيدة تحت شمس مايو التي سطعَت في ذلك النهار فوق الموكب الذهبي للملك الشاب، لكن الوهج الحقيقي كان يشع من زهورها الحمراء البرتقالية التي التقط الإسكندر إحداها ليتأمل تلك البَتْلَة الفريدة المُوَشَّاة بنقاط من الأحمر فوق قوسين من الأبيض والأصفر. يقال إنه نزع تاجه حينها وناوله لبطليموس ووضع الزهرةَ بدلًا منه، كما يقال أيضًا إن هذه هي اللحظة التي لم يَعُد عقل الإسكندر بعدها كما كان قبلها، والتي وقع فيها ما تبقَّى من قلبه وكيانه في الأسْر إلى الأبد، والتي انعقد فيها عزمُه على تشييد مدينة الإسكندرية.


قبل الميلاد بعشرين مليون عام تقريبا


عقول كبيرة مدهشة تملكها هذه القرود. بفضلها حَكموا كل تلك الأدغال الشاسعة، وسخَّروا كل ما فيها لإشباع حاجاتها. حتى تلك الشجرة الوحيدة التي كانوا يخشونها كثيرًا حين يأتي الصيف وتتفتح أزهارها التي كانت تذكِّرهم بالنار وحرائق الغابات؛ العدو الأكبر الذي لم يقدروا قَط على هزيمته. لكن قردًا عجوزًا اقترب ذات يوم -مدفوعًا بجوعه- من قرون شجرة النار، وانتزع واحدًا منها ليمزقه بأنيابه ويبتلعه بنهمٍ أمام توجُّس الجميع. لم يُصَب القرد المغامر بأي شيء، وبعد أيام كانت قبيلته كلها تتقافز بين أغصان شجرة النار وتقطف من ثمارها وأزهارها وأوراقها ما شاءت، منتشيةً بانتصارها على الجوع والخوف، وببداية العهد الذي اكتمل فيه خضوع كل أشجار الغابة لإرادة القرود. في الليل كان القرد العجوز يقضي حاجته، حين خرجَت البذور الصغيرة الصلبة مع برازه إلى الموضع الذي ستنمو فيه بعد بضع سنين الشجرة الثانية من الأشجار التي سوف تزدهر في تلك الغابات بعد رحيل كل القرود، والتي سوف يُطلِقون عليها بعد ملايين السنين اسمًا علميًّا مختارًا من كلمات يونانية تعني: واضحة المخالب.


2024 ميلادية


نتمشى عائديْن من مطعمنا المفضل الجديد في شارع فؤاد حيث كنا نحتفل -في ليلة رأس السنة- بمرور اثني عشر عامًا على زواجنا. أسأل رضوى إذا ما كانت تتذكر تخمين مؤلف الرواية للموقع الذي دُفِن فيه الإسكندر الأكبر فتخبرني بأنه عند تقاطُع شارع فؤاد مع شارع النبي دانيال. أهز رأسي مبتسمًا وأتأمل الموضع الذي وصلنا إليه، حيث بدت شجرة البونسيانا -التي توقَّفنا عندها- في ليل الشتاء خاليةً من أي مظهر للحياة، لكنني أرى بلاطات الرصيف حولها وأعرف أن هذه التشققات لا تعني سوى أن هذه الشجرة كانت وستظل تضرب بمخالبِ جذورها الخفية عميقًا في التربة الحية تحت البلاط الميت. أقول لرضوى إن المؤلف قد كتب عن تفتُّح زهور البونسيانا في الإسكندرية في شهر يونيو، لكنني أراقب هذه الأشجار منذ سنوات وصرتُ أعرف أن أول أزهار هذه الشجرة بالذات تولَد قبل أن يأتي يونيو بعشرة أيام تقريبًا. بعدها تبدأ زهور أشجار البونسيانا الأخرى المحيطة بها في الخروج بالتدريج، الأقرب أولًا ثم الأبعد، قبل أن يبدأ يونيو أخيرًا فتتوهج شوارع الإسكندرية كلها بحمرةِ أشجارها المَلَكية. وأقول لها إن هذا كله قد أوحى لي بفكرةٍ لن يصدِّقها أحد -لكنني لا أهتم، لأنني كالعادة لن أبوح بها لأحدٍ سواها- عن احتماليةِ أننا نقف الآن بالضبط عند البقعة التي ترقد فيها بقايا جسد الإسكندر الأكبر، في حمايةٍ سحرية دامَت قرونًا من شتى ضروب التطفل والإزعاج والعبث والإهانة، تحت أقصى عمق تصل إليه مخالب هذه الشجرة التي خلبَت روحَه.



31/12/2024

تعليقات


  1. هذه القصة تبين أكثر مما تُظهر
    أو انها تخفي أكثر مما يظهر منها،
    تماماً كما تخفي شجرة الرنف أكثر من مجرد جذورها الضاربة في العمق،
    كما انها لا تقل جمالا عن زهورها في حُمرة يونيو،

    وها هي الأشجار تثمر لنا مرة أُخرى،
    علّنا لا نخلوا لوقت طويل من مزيد ثمار نلتقطها متى ما يحل حصادها!

    دمتم بود وفي تطلع لكافة ما تكتبون،

    ردحذف

إرسال تعليق

اختيارات قراء هذا الأسبوع