اللون المستحيل: ما تراه الطيور ولا نراه | مقال


اللون المستحيل
ما تراه الطيور ولا نراه!

                                      
"الدهشة هي لذَّتي. كل ما لم يُكتشف بعد، كل ما لا يُتوقَّع أبدًا، كل ما احتجب عن الأعين، وكل ما استتر جوهرُه الخالد خلف قشرة التبدُّل."


لطالما انشغلَت خيالات أهل الفكر والعلم بماهية المُحتجِب ما وراء إدراكنا الحسي القاصر. منذ أول بشري أشرقَت الأسئلة في عقله مع شروق القمر في سماء الليل وحتى لحظتنا هذه التي يتكلم علماء الكونيات فيها بحسرةٍ بالغة عن "الكون المنظور" المقيَّد بالحدود القصوى لما يُمكن رصده من الأرض باستخدام أحدث التقنيات التي وصلنا إليها، ومنذ اللحظة التي غاصت فيها قدمُ أول إنسان في شبرين من مياه البحر فغصَّ خياله بالأسئلة عما يتوارى عن عينيه تحت الماء، إلى زمننا المدجَّج بغواصاتٍ تتبارى في قوة تحمُّل الضغط الهائل الذي يسببه التمادي في النزول إلى أعماقٍ سحيقة مسكونةٍ بالظلام وبغيره مما لم يكن لعين بشرٍ أن تراه. ومن الحكيم الأول الذي أبصر نملةً تسعى فتعجَّب من عزيمتها البادية رغم ضآلتها، إلى الحكماء الذين يراقبون اليوم سلوك فيروس نصف حيٍّ يجاهد لغزو مستعمرة بكتيريا لاستعبادها لصالحه. ملكوت من الغيوب لا تنجح أدوات تلصُّصنا الصغيرة التي نطوّرها كل يوم إلا في تعزيز إدراكنا بضخامته المهولة ومَنعَته الهائلة.

ولطالما طاردَت الغيوبُ المستحيلة مجاذيبَ الفنون والأدب. يتغنَّى (صلاح جاهين) بمزيج عجيب من الشكوى والرضا في إحدى أشهر رباعياته: "أنا اللي بالأمر المحال اغتوى.. شُفت القمر نطِّيت لفوق في الهوا.. طُلته مطُلتوش، إيه أنا يهمِّني؟ وليه، ما دام بالنَّشوة قلبي ارتوى؟"، بينما يكتب (هوارد فيليبس لافكرافت) قصة بعنوان "ما وراء العالم" يتخيل فيها اختراع جهاز يبث ذبذبات توقظ استقبال الغدة الصنوبرية في المخ؛ فيرى البطل حوله في كل مكان ما لم يكن يتصوره عقل إنسان، وفي قصة أخرى - بعنوان "اللون الآتي من الفضاء" - يتخيل هبوط نيزك فضائي يتوهج بألوان لم يعرف البشر لها أمثالًا ولا أوصافًا.

اللون العادي

وحكاية اللون الفضائي المستعصي على الوصف هذه تثير الخيال جدًا. لكن مجرد التأمل في الألوان "العادية" التي تبنَّينا مفاهيمها وألفناها منذ الصغر قد يثير الخيال بنفس القدر تقريبًا. فما "اللون" حقًا؟ ومن أين جاءت أسماء الألوان؟ هل البرتقالي منسوب إلى البرتقال أم العكس؟ ولماذا يُشعلنا الأحمر ويُطفئنا الأخضر؟ يخبرنا العلماء بالكيفيات وقليلًا ما يخبرونا بالأسباب ولا يُخبرونا أبدًا بالماهيات. سيقول خبراء البصريات إن لون جسمٍ ما ينشأ عن امتصاصه لأطياف الضوء المرئي كلها عدا واحدًا يعكسه فيظهر الجسم لأعيننا بلون الطيف المنعكِس، لكن هل هذه الكلمات تُسمِن فعلًا أو تُغني من جوع؟ يقول أينشتاين: "من الوارد أن نصف كل شيء بلغة العلم، لكن بعض الأوصاف ستبدو بلا معنى تمامًا؛ كأن تصف سيمفونيةً لبتهوفن بأنها تنويعات لموجات تضاغُط!". سنحاول اللجوء إذن لتفسيرات اللون قبل أن يفككها العلم بلغته الخرقاء، ونسأل صديق الألوان الحميم (ليوناردو دا فِنتشي) فيجيبنا بأن اللون مجبول من ضوء وظل، كالإنسان من روح وجسد. كلام شاعري جميل، لكن جرِّب أن تردده لجوته وسيرد عليك بوجه محتقِن: "لا يرى الفيلسوف عند الحديث عن الألوان سوى الأحمر"؛ في إشارةٍ إلى ضيق الفيلسوف الشديد بالحديث في أمورٍ كهذه. فتأمَّل تلك المعارك كلها حول تحديد مفهوم للألوان، وتذكَّر أن كل هذا الخلاف لم يتناول اللون إلا من منظور بشري بحت. منظور البشر الأنانيين المجادلين بحواسِّهم التي لا تكاد ترقى في حِدَّتها إلى قوة الحس الحيواني.

اللون الرابع

صرنا نعرف بالطبع أن الكثير من الحيوانات تتمتع بحواس أكثر رهافة – بما لا يُقاس – من حواسنا البشرية المحدودة للغاية، ويُعدُّ شم الكلب وإبصار الصقر مما يُضرَب به الأمثال. لكن بحثًا منشورًا قبل أيام في دورية نيتشر كوميونيكيشنز – بتاريخ 22 يناير 2019 – يكشف أن التفوق البصري الحيواني قد لا يُعزَى فحسب إلى حدة الإبصار، وإنما إلى طبيعته نفسها!

تعتمد حاسة الإبصار البشرية على وجود ثلاثة أنواع من الخلايا قُمعِيَّة الشكل في العين تُعرف بالمخاريط؛ يستقبل أحدها اللون الأحمر والآخر اللون الأخضر والأخير اللون الأزرق، وهي خلايا حساسة للطيف المرئي من الضوء الذي يبدأ بالطيف الأحمر وينتهي بالطيف البنفسجي. ولهذا لا يستقبل البشر الأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية بنظام إدراكهم الثلاثي للألوان، ولا يعرفون بالتالي ماهية تلك "الألوان" التي تتألق في الخفاء دون الأحمر، وفيما وراء البنفسجي، ولا يعرفون لها أسماء حتى.

لكن البحث المنشور قدَّم صورًا مذهلة - التُقطَت بكاميرا مصممة خصيصًا – للغابات الكثيفة كما تراها أعين الطيور، التي اكتُشف أنها تأوي نوعًا رابعًا من المخاريط! وهو ما يفتح مجالًا لطبيعة إبصار مختلفة كليًا عن طبيعة الإبصار البشري! فطيور الوروار الأسترالية مثلا تمتلك مخاريط تستقبل اللون البنفسجي، بينما تمتلك بعض أنواع الببغاوات مخاريط حساسة لما فوق البنفسجي!

وسعيًا لتقريب الصورة التي ترى بها الطيور وسط الغابات المتشابكة، والتي نراها نحنُ كبحر متجانس من اللون الأخضر،  طوَّر العالِمان (سِنثيا تيدور) و(دان-إريك نِلسن) خلال بحثهما كاميرات مجهزة بمرشحات مختلفة لالتقاط أطياف متعددة، وإخراج صور هي أقرب محاكاةٍ ممكنةٍ لما تراه أعين الطيور الباحثة - وسط ملايين الأوراق النباتية المتداخلة - عن غذائها من الحشرات الضئيلة الخفية.

محاكاة لما تراه الطيور (يمين) مقابل ما يراه البشر

تُظهر الصور كيف أن الحساسية البصرية لأطياف ما فوق البنفسجي تجعل الأسطح السفلية للأوراق النباتية متمايزةً تمامًا عن أسطحها العلوية بصورةٍ تجعل المشهد الذي نراه نحن كمسطح أخضر ممتد، نابضًا بتفاصيل أبعاد الأوراق الثلاثية واتجاهاتها في الفراغ. وهو ما يجعله يتحول إلى ما يشبه خريطةً واضحةً ثلاثيةَ الأبعاد؛ تكشف للطيور المواقع الدقيقة للأغصان وللأوراق ولما اختبأ تحت أسطحها السفلية من حشرات أو عناكب.

لكن هذه المحاكاة البصرية بكل ما تحمله من بواعث العجب والدهشة، تبقى في النهاية مجرد محاكاة حاسوبية لما تراه الطيور بذلك "اللون الرابع" الذي ليس بإمكان أي بشري تخيّله حتى بإدراكه البصري الذي لا يستقبل إلا ألوان ثلاثة. تقول (سِنثيا تيدور): "من المستحيل أن نُخرج تمثيلًا حقيقيًا تمامًا لما يمكن أن يتراءى لبصرٍ يعتمد على أربعة أنواع من مستقبلات اللون". لكن ما يسعى (تيدور) و(نِلسن) للوصول إليه في أبحاثهما المستقبلية هو تقديم محاكاة أخرى للطريقة التي تظهر بها فرائس الطيور بهذه الرؤية فوق البنفسجية، والتنقيب خلف ما قد يختلف في طرق الرؤية بين أنواع الطيور، وفي البيئات المختلفة.

اللون اللانهائي

يعقب (نِلسن) قائلًا: "ربما يتبادر إلينا أن ما نراه هو الحقيقة، لكنها – على الأكثر – حقيقة بشرية. أما الحيوانات الأخرى فتعيش حقائق أخرى مختلفة كليًا. وقد صار بإمكاننا اليوم أن نختلس النظر بأعينها، ونميط اللثام عن بعض تلك الحقائق. فالحقيقة – في النهاية – تكمُن في عين الناظر".


حقائق حسيَّة بلا نهاية تصِفُها حواس السمع والبصر والشم والتذوق واللمس عند ملايين الكائنات، وتتعدد في البشر خصوصًا بعدد أنفاسهم، أما خاصَّةُ أهل الفكر والفن فيُبحرون بأعين أرواحهم فيما يتجاوز أحيانًا حقائق الطبيعة. يقول (فنسنت فان جوخ): "أفكر دائمًا في أن الليل أغنى بالألوان وبالحياة من النهار". فهل كان (فنسنت) حقًا يرى كالطيور – بفؤاده الشبيه بأفئدة الطَّير – ما لا نراه؟ وحدها السماء المرصَّعة بالنجوم فوق نهر الرُون تستطيع الإجابة.


نُشر هذا المقال في الأصل على موقع حبر.

تعليقات

اختيارات قراء هذا الأسبوع