وصول: من أين تبدأ الدائرة؟ | مقال
وصول: من أين تبدأ الدائرة؟
يبدأ فيلم "وصول" Arrival من لحظة الوصول نفسها تمامًا، ليخالف المعتاد في أفلام "الكائنات الفضائية"، التي تبدأ أحداثها في العادة قُبيل وصول الفضائيين لتبني زخم الصدمة المطلوب، أو تبدأ بعد الوصول بفترة، لتترك كامل التركيز على عواقبه. لكن المخرج الفرنسي الكندي ديني فيلنوف Denis Villeneuve اختار أن يبدأ فيلمه في لحظة الوصول بالتحديد، ولم أكن أعرف أن هذا "التحديد" سيكون هو الأول والأخير، في فيلم يشبه الدائرة في تمام رسمها وإحكام بنائها واستحالة تمييز بدايتها من نهايتها.
تصل اثنتا عشرة سفينة فضائية - تبدو كل واحدة منها كحجر أملس عملاق على شكل قطع ناقص مجسم - إلى اثنتي عشرة وجهة من مدن الأرض، وتظل السفن معلقة في الهواء كعلامات استفهام عملاقة تذيِّل السؤال الكبير: لماذا هم هنا؟ تبحث البشرية عن العقول التي تستطيع اقتحام اللغز، وتبادر الحكومات بتكوين فرق من العلماء في المجالات المعنية، وهنا يحدث اللقاء بين الدكتورة (لويس بانكس) - آمي آدامز Amy Adams - المتخصصة في اللغويات، والدكتور (إيان دونلي) - جيريمي رينر Jeremy Renner - المتخصص في الفيزياء.
ويحاول العلماء وتتكرر اللقاءات مع زوار الفضاء، وتبدأ الدكتورة (بانكس) في رحلة فك شفرات تلك "اللغة" التي تستخدمها الكائنات، والتي تظهر عباراتها كدوائر من الحبر معلقة في الهواء. هذه الرحلة التي تصحبها - وتصحبنا - في دوامات جديدة من الأسئلة التي تظل تدور بلا نهاية.
يطفو سؤال في أول لقاء بين (بانكس) و(دونلي): يؤكد عالم الفيزياء أن حجر أساس الحضارات كلها هو العلم لا اللغة، بينما تجادل عالمة اللغة بأن اللبنة الأولى لأي بناء حضاري هي الكلمة، مفتاح التواصل الأول بين الناس، والسلاح الأول الذي يستلُّونه في المعارك. فكيف يُنقَل العلم فعلًا دون اللغة؟ تتساءل وأنت تميل إلى كفة (بانكس)، ثم تفكر في ما يمكن أن تصنعه قرون من التواصل اللغوي وحده دون وجود العلماء، فتعود لتفكر في منطق (دونلي) الذي لا يخلو بدوره من وجاهة.
وينطلق الفكر من هذا السؤال إلى سؤال دائري آخر يفرضه أسلوب قصة الفيلم نفسه، ويلمح إليه هجاء اسم ابنة الدكتورة (بانكس): "هاناه Hannah"، وهو سؤال البدايات والنهايات. متى تبدأ القصص بالضبط؟ وكيف نحدد نقطة بعينها في دائرة الحكاية لنسميها البداية وأخرى نسميها النهاية؟ ألم يحدث قبل نقطة البداية المزعومة تلك أي شيء له أهمية ما؟ أي شيء قد يكون هو الدافع المنسي للأحداث، والمحرك الأول المستتر لمصائر أبطال الحكاية؟ وماذا عن النهاية؟ ألا يطرأ على أبطالنا على الإطلاق ما يستحق الذكر بعدها؟ هل يعيشون بعدها أبدًا "في تبات ونبات"؟! هل تنتهي حقًا أية حكاية؟ أم أننا نحن الذين ننتقي نقطة ننهيها عندها، حسب أمزجتنا ووجهات نظرنا وتفضيلاتنا الشخصية؟ هل الحكايات في حقيقتها خطِّية محددة كما قد نظن، أم دائرية كنقوش زوار الفضاء هؤلاء، قد تُقرأ من اليمين كما قد تُقرأ من اليسار؟ قد تسير في اتجاه عقارب الساعة حينًا وقد تمضي عكسها تمامًا إذا شاءت؟
ويدفعنا عنوان الفيلم نفسه إلى سؤال مشابه: الفيلم الذي لم يقدم إلينا كائنات فضائية بادية النوايا، تقود أسطولًا من سفن الغزو لتطلق الأشعة المدمرة على حواضر كوكبنا ومعالمه، وإنما جعلها غارقة في الضباب بالمعنيين الحرفي والمجازي، ليحجب ضباب قُمرة السفينة ملامح الزوار التشريحية فلا يظهر منها غير أذرع أخطبوطية (قد تذكرك كثيرًا بكتابات هوارد فيليبس لافكرافت H.P. Lovecraft) تُطلق دوائر حبرها الغامضة، وليحجب ضباب العجز عن التواصل مع لغة دوائر الحبر نوايا تلك الزيارة، فلا يعود ما يشغل المشاهد هو التوصل إلى كيفية دحر "الغزاة"، وإنما التوصل إلى إجابة السؤال البدهي المعلق في الضباب وعلى الملصق الدعائي للفيلم: "لماذا هم هنا؟". فكيف يبدأ التواصل؟ ومتى يكون "الوصول"؟
وسؤال آخر يطرحه انتماء الفيلم إلى فئة "الخيال العلمي": هل علمُنا اليوم ليس إلا خيالنا بالأمس وقد تجسد أخيرًا؟ أم أن العلم هو الذي يحلِّق بنا إلى ما لم يخطر في خيالنا يومًا؟ من أين تبدأ دائرة الخيال العلمي؟ هل البداية عند مَن اتسع إلمامهم بالعلوم ليتخطوا حدود العلم إلى ممالك الخيال؟ أم عند مَن اتسع خيالهم وشطَّ ليغوي العلماء أنفسهم بالتسابق خلفه لاهثين؟ هل ألهمت الثورات العلمية البشر أن يحلموا باختراع التليفزيون مثلًا؟ أم أنه حلم ظل يداعب خيال البشر منذ الأزل حتى وجهوا علومهم المكتسبة لتحقيقه؟ وهل أدب وسينما الخيال العلمي من نتائج الفتوحات العلمية أم أنها ضمن أسبابها الأصيلة؟
دوائر لا تنتهي من الأسئلة، تظل تتوالد وتنتشر وتتقاطع كموجات في بحيرة ألقى هذا الفيلم فيها حجرًا أملسَ عملاقًا. بحيرة من الأفكار بلا قرار، يغوص الحجر في قلبها بلا نهاية، وبلا وصول.
نُشر هذا المقال في الأصل على موقع الجزيرة الوثائقية.
تعليقات
إرسال تعليق