هذا أنا: أسماكٌ تتعرَّف على أنفُسِها في المرايا! | تقرير

هذا أنا: أسماكٌ تتعرَّف على أنفُسِها في المرايا!



نسمع كثيرًا مصطلح "ذاكرة الأسماك" الذي يُساق للإشارة المُتعالية إلى ذاكرةٍ قصيرة وذكاءٍ متواضع وقدرةٍ محدودة على التعلم من التجارب. لكن ثمة دراسة نُشرت مؤخرًا في دورية PLOS Biology تدعونا إلى التمهُّل قليلًا قبل استعمال هذا المصطلح مرةً أخرى.


دهاء تحت الماء


أجريت الدراسة على نوع صغير بسيط من الأسماك المعروفة بأسماك الرأس (أو اللبروسية) المُنظِّفة Cleaner Wrasse والمشهورة بزيِّها المُخطَّط -الذي أهَّلَها لتكون ضمن أسماك الزينة الشائعة- ووظيفتها المتواضعة بتنظيف أجساد أنواع السمك الأخرى الأكبر من الطفيليات الخارجية، التي تعتبرها أسماك اللبروسية المنظِّفة أرزاقها وأقوات أيامها. لكنها لا تتغذى حصريًا على الطفيليات؛ فأحيانًا ستبدو لها جلود "عملائها" من السمك أشهى وأغنى، فلا تقاوم أحيانًا أن تقضم منها قضمات صغيرة تجريبية وتراقب رد فعل "الزبون"، فإن غفل عنها تمادَت، وإن انتبَه انتهَت! هذه لمحة فقط من ذكائها المثير للعجب، أما عن "ذاكرة الأسماك" المزعومة، فعُملاء سمكة لبروسية مُنظِّفة واحدة قد يتجاوزون المائة في اليوم الواحد، وقد ثبت أن ذاكرتها تسجِّل إن كانت تجاربها مع هذه السمكة أو تلك إيجابية أم سلبية! بل سُجِّلت حالات اعتذار عملي للزبائن الساخطين بتقديم جلسات تدليك بالزعانف! هذا المخ الاستثنائي -الذي لا تتكاوز كتلته عُشر جرام- رشَّح هذه السمكة الصغيرة البسيطة لبطولة الدراسة التي كشفَت في النهاية أنها تستطيع أيضًا تمييز صورتها في المرآة!


ما تُخبِر به المرايا


ربما لا يبدو -لنا كبَشَر- تمييزُ انعكاسِ النفْسِ في المرآة أمرًا متطلبًا لذكاءٍ خاص. لكن التقارير البحثية تقول إن القليل جدًا من أنواع الحيوانات (كالقردة العليا والدلافين والحيتان القاتلة وطيور العَقعق وفيل آسيوي بعينه!) استطاع اجتياز اختبار المرآة، وهو اختبارٌ تُرسَم فيه بقعة ملوَّنة فوق جسم الحيوان لمراقبة سلوكه عند ملاحظتها في المرآة، ومعرفة إذا كان سيحاول تفحُّص الموضع المَوسُوم. ولهذا يُعد تمييز النفس في المرآة علامةً فارقةً على تطوُّر الإدراك والوعي بالذات.


يقول الدكتور (ماسانوري كودا) -الباحث في علم اجتماع الحيوان بجامعة أوساكا اليابانية- في تصريح خاص لكاتب هذا التقرير: "في اليوم الأول لوضع المرآة الكبيرة في الحوض أمام الأسماك، هاجمَت الأسماك انعكاساتها التي بدَت لها كأسماكٍ أخرى، واستمر هذا حتى اليوم الثالث، وفي مرحلة تالية امتدت من اليوم الثالث إلى الخامس بدأَت الأسماك في التخلي عن هجومها واختبار المرآة عن طريق الإتيان بحركات غريبة مقصودة كالسباحة بسرعةٍ كبيرة وبنمطٍ متكرر أمام المرآة، أو حتى السباحة مع تدوير الجسد ليصبح أسفله أعلاه. كل هذا أثناء مراقبة الانعكاس ودراسته. أما بعد اليوم الخامس فقد صارت الأسماك على وعيٍ واضحٍ بمفهوم المرآة، وبأن ما تراه ليس سوى انعكاسات صورها."


بعد ذلك كانت الأسماك تحُكُّ مواضع بُقع الألوان -التي وضعها العلماء على أجسادها- في الأسطُح الخشنة سعيًا للتخلُّص منها، تمامًا مثلما يفعل أحدُنا إن أبصرَ في المرآة لطخةَ حبرٍ على وجهه. وللتأكد من هذا السلوك قام العلماء بإعادة التجربة مع القيام بتغييرين مختلفين: مرة بوضع علامات شفافة بدلًا من الملونة، ومرة بوضع علامات ملونة لكن مع إزالة المرآة. وقد كان اللافت للنظر أن الأسماك لم تحاول قط في المرتين إزالة البقع من فوق أجسادها.


ماذا بعد التمييز؟


لكن بأية طريقة تُميِّز تلك الأسماك انعكاساتها؟ يجيب الدكتور (ماسانوري كودا) عن سؤال المحرِّر قائلًا: "نعرف بالفعل أن بعض أنواع الأسماك الاجتماعية تُفرِّق بين أفراد أسرابها كما نفعل نحن تمامًا: بقراءة ملامح الوجوه. ونعرف أيضًا أن الأنماط اللونية على وجوه أسماك اللبروسية المنظِّفة (وهي من الأسماك الاجتماعية) تختلف من فردٍ إلى آخر ولا تتكرر أبدًا. ولهذا ففرضيتنا الحالية هي أنها تعتمد في تمييز صورتها على نفس الطريقة التي تُميِّز بها صور الآخرين من أبناء نوعها؛ قراءة الملامح اللونية. لكن كيف يحدث هذا بالضبط؟ سيكون ذلك موضوع بحثنا الجديد الذي سيشغلنا هذا العام."


ويعقب الدكتور (أليكس جوردان) -الباحث بمعهد ماكس بلانك والمشارك في الدراسة- قائلًا: "الآن وقد صار اجتياز اختبار السمكة لاختبار المرآة حقيقة مؤكدة، فهل يدل هذا بالضرورة على وعيها بذاتها؟ يبقى استنتاجٌ مزلزِل كهذا محاطًا بالكثير من الغموض، مفتقرًا إلى الكثير من الجهود البحثية التي قد تكشف لنا يومًا آفاق ذكاء وإدراك ووعي تلك الكائنات المُدهشة".



نُشر هذا التقرير في الأصل على صفحة العلوم بموقع الجزيرة نت.


تعليقات

اختيارات قراء هذا الأسبوع